العربات في ذلك الوقت من تلك الليلة الشاتية نفخ فيها حياة بعد أن كاد يقتلها الإعياء، فقد من نومه وفتح عينيه المغمضتين، وأبعد بائع التذاكر الصحيفة عن وجهه وصعد بصره في كأنه يقول:
وهل بقي من راكب بعد أن مضى الهزيع الأول من هذا الليل الممطر؟. ثم قام الاثنان ونظرا إلى الخارج كأنهما يريدان أن يريا المطر الذي كان يسفع زجاج العربة بشدة، وعاد في الحال كل إلى مكانه لأن وقت الحركة لم يحن بعد، فأغمض السائق عينيه، ورفع بائع التذاكر جريدته إلى وجهه وأخذ يقرأ.
جلست وفي نفسي أن انتظاري سيطول، لقد كان منتظر العربة مؤلماً جداً، كانت أطرافها ملوثة بالطين، وكان زجاجها مستوراً بطبقة من مياه الأمطار التي كانت تسيل عليها، وكان نورها ضئيلاً، وهي واقفة تحت سيل الأمطار الذي لم ينقطع منذ ساعات وقفة حزن وملل تنتظر الوقت لتسير. كم كان مؤلماً منظر الخيل وهي تنتظر بفارغ الصبر العودة في تلك الساعة إلى اصطبلها الدافئ، ومنظر السائق الذي هد ّ التعب جسمه وغلبه النعاس فلا يكاد يرفع رأسه، ومنظر بائع التذاكر الذي كان يود النزوح ولو بخياله عن خط الترام الذي هو كل ما تراه عينه في كل يوم منذ الصباح حتى المساء، فهو يتلهى بالنظر إلى جريدته كلما سنحت له الفرصة. .
كنت وأنا أنظر إلى المياه التي كانت تسح من مظلتي التي ابتلت من المطر الغزير فتؤلف دوائر، أقول في نفسي:(أن هذه العربة التي كادت قطعها تنفصل عن بعضها لكثرة ما حملت من الناس لأراحتهم، وهذين الحيوانين اللذين أكل عليهما الدهر وشرب، وهذين الرجلين البائسين، وهذا الخط الحديدي الذي يفسح لنفسه الطريق بين الأوحال من (الجسر) حتى (جنبرلي طائش). كل هؤلاء مكلفون في هذا الليل المدلهم بحملي وحدي بأجرة لا تزيد على قرش واحد).
دق الجرس فجأة ففتح السائق عينيه ونهض يتمطى، ونظر آلي ما حوله حيران كأنه يعجب من وجود عمل يجب القيام به في ذلك الوقت من الليل لإتمام عمل النهار. ففرك يديه وسار. فتنح الباب فهجمت منه موجة هوائية باردة، ثم خرج وأغلقه خلفه وبقي وحده معرضاً لموجات الهواء التي كانت تلطم عربة الترام.