إلى هنا ونقف قليلا لنناقش هذه الكلمات التي تحفل بطلاوة الأسلوب وتفتقر إلى سلامة النطق. . . إذا أمكنك أن تصدق أن (القراءة والاستماع) من أخصب المصادر للاتصال بالحياة، فلا بأس عليك إذا كنت من بلد آخر غير مصر أن تقرأ ما نقله إليك عنها بعض الكتاب المغرضين من أمثال وندل ويلكي، لتستطيع بعد ذلك أن تصور الحياة المصرية خيراً من الذين بلوا حلوها ومرها وسعدوا بنعيمها وشقوا بجحيمها كما يقول الدكتور طه حسين! ولا بأس عليك أيضاً إذا كنت من بلد آخر غير مصر أن تستمع لكاتب مثل جان كوكتو إذا ما حدثك عن البيئة الشعبية في مصر لتستطيع بعد ذلك أن تصور هذه البيئة خير تصوير، مع أن كوكتو مثلا لم يشهد من معالم الحياة المصرية غير فندق الكونتننتال ودار الأوبرا وأهرام الجيزة وجامعة فؤاد!
أريد أن أقول لك إن القراءة قد تنقل إليك الحقائق مشوهة وإن الاستماع قد يطلعك على الوقائع محرفة، ومعنى هذا أن الأديب إذا اتصل بالحياة عن هذا الطريق فهو اتصال لا فائدة منه في الأغلب الأعم ولا خير فيه، لأنه اتصال مشوه المعالم ممسوخ السمات!
إن الدكتور يستشهد على صدق ما ذهب إليه بما كتب جيته عن الشرق، فهو (قد كتب مثلاً أشياء رائعة صادقة فيها كثير من الدقة والصدق وحسن الاستقصاء مع أنه لم يزر الشرق ولم يشهد حياة الناس فيه، وإنما قرأ كتب الذين رحلوا إلى الشرق وقرأ ما ترجم من آثار الشرقيين في عصره ففهم الشرق خيراً مما فهمه الذين رحلوا إليه والذين ترجموا آثاره)!
هذا كلام لا يقوى على التمحيص ولا يثبت على المراجعة، لأن جيته الذي استمد كل معلوماته عن الشرق وحياة الشرقيين من كتب الغير، لا يمكن أن يكون أكثر صدقاً ولا استقصاء من هؤلاء الذين قرأ لهم ونقل عنهم، ورأوا الشرق رأي الحس والعين لا رأي الفكر والخيال! وإذا كان جيته قد صور الحياة في الشرق تصويراً رائعاً عن طريق (القراءة والاستماع). فمما لا شك فيه أنه لو قدر له أن يزور الشرق وأن يطلع بنفسه على حياة أهله لكتب خيراً مما كتب ولأجاد التصوير خيراً مما أجاد؛ لأن الواقع المحس شيء والواقع المنقول شيء آخر. . . وإذن فلا مبرر إطلاقاً للقول بأن (القراءة والاستماع) من أخصب المصادر التي تتيح للأدباء أن يصوروا الحياة خيراً من الذين بلوا حلوها ومرها