طولها لا يتفق وصغر أعضائها، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من الملاحة. لقد كنت أشعر بشيء غريب لوجودي في تلك الليلة الشاتية في تلك العربة بجانب تلك الفتاة منفردين، كنت أشعر بلذة غامضة كالتي يتوهمها الإنسان عند قراءة شعر لا يفهم معناه. وفي تلك الأثناء رفعت رأسها بسرعة ومسحت زجاج النافذة ونظرت طويلاً نظرة تدل على ضجرها من التأخر. وكنا في ذلك الوقت نسير في محلة (جيفته حاووضلر) وكنت أقول في نفسي (أين تذهب هذه الفتاة في مثل هذا الوقت في مثل هذه الحالة الجوية؟). ثم ارتدت مسرعة عن النافذة، وانحنت قليلاً كأنها تريد أن تكلم بائع التذاكر الذي كان مغطياً وجهه بجريدته يغالب النوم ويغالبه، ولكنها لم تجرؤ أن تكلمه فنظرت إلى نظرة تدل دلالة واضحة على أنها تريد أن تسألني عن شيء، فنظرت إليها نظرة أسألها فيها عما تريد، إلا أنها بصورة من الصور لم تجد قدرة على الكلام فسكتت، ونهضت على رجليها ونظرت ثانية من النافذة، وفي هذه المرة ارتدت مصفرة فقلت لها:
- قالت بصوت رقيق يشبه جسمها الصغير بلهجة تدل على الحشمة والوقار:
- عفواً يا سيدي، فهل (الجسر) بعيد عنا؟
- فقلت:
- الجسر؟ أنتِ مخطئة أبتها الآنسة، إن هذه العربة تسير بنا إلى (آق سراي)
- فنظرت إلى وجهي نظرة جامدة كأنها لم تفهم شيئاً، وبعد أن وقفت مدة على هذه الصورة لا تجد في نفسها قوة على الاستيضاح قالت:
- إذن نحن الآن لا نسير نحو (الجسر)؟
- لفظت جملتها هذه بصورة تدل على فزع شديد علمت منه أنها ارتكبت خطأ، فداخلتني عليها شفقة وقلت:
- أنا آسف جداً يا آنسة، أنت تريدين الذهاب إلى (الجسر) إلا أنك ركبت عربة تسير عنه لا إليه، وقد أوقعك في هذا الخطأ ظلام الليل ودهشة المطر.
- كانت تسمع كلامي والبكاء يكاد يغلبها على عينها وتقول بصوت مسموع: لقد تاخرت كثيراً. ثم قالت بصوت يخالطه شيء من الأمل: