من قبره إلى قصره - فكيف تكون حياته المقبلة؟ أهي مماثلة لحياته الماضية؟ أفيها متع عاجلة وشهوات زائلة، ومطامح سرعان ما تُنسى، ورغائب ما أقل ما تبقى؟ أم فيها نعيم خالد لا يُصدَّع عنه ولا يُنزف، ولا ينقطع ولا يفتر، ولا يُمل ولا يُستكره، لأنه يتدفق من عين قدسية تنبع من الذات الإلهية؟
(هل ستحيا غداً حياتك الماضية؟
أم ستتمتعْ أخيراً بنعيم السماء
دافقاً من نفس الإله عينك الجارية،
بعد أن تحررت إلى الأبد من قيود الفناء؟)
وهنا يثوب الشاعر إلى وعيه، ويصحو على نفسه، فيوقن أنه لم يمت ولم يُقبر، وأنه لم يُبعث ولم يُنشر؛ وأن نفسه جالت فأكثرت التجوال، وتخيلت فأسهبت في الخيال؛ وأن كل ما تصوره وتمثله لم يعدُ أن يكون آمالاً عذاباً كثيراً ما تراءت أمام عينيه؛ وإنما شخص له هذه الآمال ذكراه لحبيبته التي انفصلت عنه انفصال الروح عن البدن، وعرجت إلى ملكوت السماء بعد أن خلفته وراءها جسداً محطماً وأعضاء جامدة، ومشاعر خامدة؛ فكيف لا يناجي روحه الذي فارقه، ولم لا يتمنى أن يلحق به ولو بالموت والفناء؟
لا. لن يندم لامرتين على جسده إن كان فناؤه قرباناً لروحه؛ فإن أمله في لقاء المحبوبة يهوِّن عليه كل شيء، وأن هذا الأمل نفسه هو الذي جعله لا يُراع ولا يضطرب حين رأى شحوب الموت على وجه (جوليا) الجذاب كأنه صفرة ألوان الربيع بعد أن تذوي وتحول: كلاهما أمر جرت به سنة الحياة، وقضت به حكمة الوجود.
من أجل ذلك عاد يناجي روحه - وهو في الحقيقة لا يناجي غير حبيبته - بهذه الكلمة التي لا تفيض إلا من قلب نقي وسريرة طاهرة.
(بلى. . . تلك - يا نصف حياتي - آمالي العِذاب
فبها استطاعت نفسي أن تجول،
وترى بلا روْع على وجهك الجذاب
ألوان الربيع الزاهيات تحول. .)
ويؤكد هذا المعنى النبيل بأن آماله في لقاء (جوليا) ومناقلتها الحديث ومشاركتها في نعيم