السماء لم تبعثه على الصبر والاحتمال فقط، وعلى الرضا بحكم القضاء فحسب، وإنما ستبعثه على الشجاعة وقت الشدة؛ فهو سيبتسم ساعة يتأرجح بين الوجود والعدم، ساعة يحتضر على فراش موته؛ ثم هو لن يأسف على صباه حين يفصم الدهر عُراه، وإنما سيبكي من فرط سروره بلقيا حبيبته منية نفسه، ونصف حياته.
(وبها ستراني أبتسم وأنا أحتضر،
بعد أن يفصم الدهر عُرى صباي
وأن دموعي من فرط السرور ستطفر
في لقائنا. . . فتتلألأ بها عيناني!)
ويستمر لامرتين في نجواه - وما أروعها من نجوى! - فيتمثل حبيبته ويجثو بين يديها مقلباً لها صفحات الماضي البهيج بذكرياته الحلوة؛ وما يفتأ يخاطبها على أنها روحه الذي انفصل عنه فيذكر هذا الروح باليوم السعيد الذي ولد فيه الحب بينهما من نظرة عاجلة تلاها حديث لطيف ومجلس عفيف، ثم جولات جميلة وسكرات نبيلة، في محراب الطبيعة حين تأخذ زخرفها وتزَّين تارة على رءوس صخورها الناتئة كأنها رقيب نشوان يرهف أذنيه ليسمع أحاديث الهوى؛ وتارة حول بحيراتها الحزينة كأنها صديق أسوان يقاسم الحبيبين ما كتبت لهما يد القضاء؛ وأحياناً على شطئانها الجُردْ وكثبانها النواعم التي تكتم السر فلا تفشيه وتحفظ العهد فلا تنساه؛ والحبيبان - في تلك الأويقات كلها - لا يحسان مرور الزمن، ولا يكترثان بالظلال التي تهوي من الجبال، ماحية القرى في أذيالها السود، فإنهما لفي نشوة، وإنهما لطائران عن هذا العالم المادي المحدود إلى عالم عرضه السموات والأرض تصفو فيه الأنفس، وتمتزج الأرواح، وتأتلف القلوب!