الأكثرين مسودا ومملكا ... ومتوجا في سالف الإعصار
والثانية بعث بها إلى ابنه الراضي، عندما أرسل إليه يأمره بالخروج لمحاربة عدو هاجم (لورقة) فأظهر الراضي تمارضاً وانصرف إلى القراءة، فكتب إليه قصيدة تهكمية بدأها بقوله:
الملك في طي الدفاتر ... فتخل عن قود العساكر
وللمعتمد فخر بنفسه وبأسرته في ثنايا قصائد غزله ورسائله إلى أبيه، ولم ينشئ قصيدة للفخر قصداً إلا تلك التي أوحى إليه بها فتحه قرطبة، وإلا ثانية يفتخر فيها بالجود، وإلا ثالثة أنشأها في الأسر وسوف نعرض لها.
ولم يَرْثِ غير بنيه الذين قتلوا وهم يدافعون عن مدنهم، وهو حين يرثي يندفع حيناً وراء حزنه، حتى ليرى من الغدر ألا يفيض جفنه عليهم، ويرى نفسه أحق بالبكاء من تلك القمرية التي أثارها فقد إلفها:
فمالي لا أبكي؟! أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لآلاف عديدهم كثر
غدرت إذا إن ضن جفني بقطره ... وإن لؤمت نفسي فصاحبها الصبر
وحيناً تتغلب العاطفة الدينية لديه، فيخفف ذلك من وقع المصائب عليه:
مخفف عن فؤادي أن ثكلكما ... مثقل لي يوم الحشر ميزانا
أما عندما كان في الأسر فإنه وجد في رثاء بنيه وبكائهم متنفساً عن آلامه، ووجد في الجزع عليهم تعبيراً عن يأسه وتبديد أحلامه، ولا ريب أن حاله في الأسر هو الذي أوحى إليه بهذا البيت الباكي:
يقولون صبراً، لا سبيل إلى الصبر ... سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري
وهو في هذه القصيدة يرى الطبيعة تشاركه في الحزن، فالبدر والنجوم الزهر في مأتم كل ليلة، والغمام يبكي مشاركة له في مصابه، ولا غرو فذو المنظار الأسود يرى الدنيا كلها سوداء، والمعتمد يناجي ولديه، محدثاً لهما عما خلفه بعدهما في القلوب، من جروح وندوب، وما استحال إليه مجده بعدهما من تبدد وانهيار، حتى إنهما لو عادا لآثرا الموت على أن يرياه مقيداً مأسورا.