فقلت لك مقاطعاً:(وهي فتاة فيها الشرف والكرامة والانزواء عن الشرور، والنأي عن الدنايا، والفزع عن الفحش. وهي إن تعلمت كانت في الدار صاحبة ورفيقة، وفي الجماعة نبراساً وضياء، وإن تزوجت أصبحت أماً وزوجة ومعلمة).
وقلت لي في ملل وضيق:(إن فيها الرجعية والجمود وانغلاق الذهن وفساد الرأي).
فقلت لك:(وإن فيها بواعث الحياء والخجل والترفع والإباء، ولكنك أنت - يا صاحبي - قد لبست القبعة حيناً، فنفثت فيك من روحها ودمغتك بأسلوبها، فهل كنت تؤمن بما تقول حين اندفعت إلى فلان بك في غير أناة ولا صبر تخطب إليه ابنته وهي فتاة مصرية. . .)
لا عجب - يا صاحبي - إن كنت قد عصفت بك صاعقة عنيفة يوم أن طردك سعادة البك من داره فتزلزل كيانك وتصدع قلبك، لأن رجلاً مصرياً دَّعك من داره في غير هوادة ولا لين، وامتهنك وأنت فيلسوف عظيم لبس القبعة حيناً من الدهر!
وآدك أن تصبر على ما أصابك من سعادة البك ومن ابنته، فانطلقت تشوه الحقيقة وتمسخ الواقع لتثلب الأسرة المصرية وتحط من قدرها بحديث تافه فيه المغالطة والمكابرة.
وذهبت تلقي أعباء نفسك في نُزل قاهري الموقع أجنبي الصبغة بين يدي سيدة عجوز، ألمانية اللسان يهودية النزعة، ومن حواليها بناتها الثلاث، وإن الواحدة منهن لترف رفيف الزهرة الغضة حين تنفح عطرها الجذاب لتأسر به القلب وتسيطر على الفؤاد.
وسكنت إلى هذا النزل، تعيش بين العجوز وبناتها تمثالاً صامتاً لا ينبض بالحياة ولا يخفق بالإنسانية، فأنت تقضي يومك منطوياً على نفسك في حجرة لا تندفع إلى حديث ولا تنشط إلى سمر، ولا تبسم لمفاكهة، ولا تنزع نفسك إلى رفيق. وضاقت العجوز بأسلوبك في الحياة، فهي تطمع أن تراك طلق الوجه واليدين واللسان تنغمر في حياة الأسرة تأخذ منها وتعطي. . . ضاقت بك العجوز وهي ذات مكر وخداع، وهي ذات حيلة ودهاء، لا يعجزها أن تتوسل إلى غايتها بأساليب شيطانية، ولا يقعدها أن تبلغ الهدف بأفانين أرضية. وانصرفت أنت إلى خلوتك وشغلت بخواطرك، ولكن العجوز اليهودية لم تنصرف عنك، فراحت تسعى إليك، وتنفث فيك سمومها، وتنقض عليك - بين الحين والحين - تريد أن تنزعك من خلوتك، وأن تزعجك عن وحدتك، وأن تكشف عن سرك، وإن لنفثاتها لسحراً،