كتابه:(ولما نصبت نفسي للخوض في علم البيان، ورمت أن أكون معدوداً من علمائه، علمت أن هذه الدرجة لا تنال إلا بنقل ما في الكتب إلى الصدور، والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور. . .
ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وأنفذت شطراً من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحراً لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله، فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده، وتتشعب مقاصده، ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم، في اتباع من قصره نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل، وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس، وأبي عبادة الوليد، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته. وقد حوت أشعارهم غرابة لمحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين لأمثال السائرة وحكمة الحكماء).
وأخذ ابن الأثير كذلك بحظ من الحساب، والجبر، والمقابلة، والهندسة ولست أدري إن كان قد عرف لغة غير العربية، مما هيأ له أن يحكم على الالتفات بأنه خاص باللغة العربية دون غيرها من اللغات؛ وأرجح أنه كان يعرف الفارسية والتركية، كما يدل على ذلك حديثه عنهما في كتابه؛ وكان ابن الأثير متعصباً للغة العربية، مؤمناً بأنها سيدة اللغات، لما أوتيت من خصائص في تركيب كلماتها، وما منحته من سعة ودقة جمال.
أما موقفه من الفلسفة فموقف المبغض المزدري، يرى في دارسيها من أمثال ابن سينا والفارابي رجالاً مغرورين أضلهم أرسطو وأفلاطون.
ولما استكمل ابن الأثير ثقافته، مضى يريد الاتصال بصلاح الدين، فأوصله القاضي الفاضل إليه في جمادي الآخرة سنة ٥٨٧ وقرر له صلاح الدين مرتباً، ولكنه لم يلبث في معية صلاح الدين بضعة أشهر، حتى طلبه الملك الأفضل نور الدين من والده، فخيره صلاح الدين بين الإقامة في خدمته، والانتقال إلى ولده، فاختار ولده، ومضى إليه في شوال من تلك السنة. ولعل الباعث له على هذا الاختيار رغبته في أن يكون بمكان يستطيع أن يظفر فيه بسامي المناصب وقوى النفوذ، ولن يكون ذلك مع صلاح الدين ووزيره القاضي