للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنه يغالي أحياناً في ادعاء الاختراع لمعاني رسائله؛ قال ابن خلكان (ومن رسائل ضياء الدين ما كتبه عن مخدومه إلى الديوان العزيز من جملة رسالة وهي: ودولته هي الضاحكة وإن كان نسبها إلى العباس، فهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس، ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم، وأنها لا تزال محبوبة من أبكار السعادة بالحب الذي لا يسلي، والوصل الذي لا يصوم. وهذا معنى اخترعه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لا تخطه الأقلام في صحفها، ولا أَجالته الخواطر في أفكارها.

أقول: لعمري، ما أنصف ضياء الدين في دعواه الاختراع لهذا المعنى، وقد سبقه إليه ان التعاويذي في قصيدته السينية التي مدح بها الإمام الناصر لدين الله أبا العباس أحمد، أول يوم جلس في دست الخلافة ومنها:

ورأى الغانيات شيبى فأعرضن، وقلن: السواد خير لباس كيف لا يفضل السواد، وقد أضحى شعاراً على بني العباس ولا شك أن ضياء الدين زاد على هذا المعنى، لكن ابن التعاويذي هو الذي فتح الباب، وأوضح السبيل، فسهل على ضياء الدين سلوكه.

وتنوعت أغراض الرسائل التي كتبها ضياء الدين بين سلطانية وأخوية، وهي رسائل دسمة، فيها كثير من معاني ما حفظه من قرآن وحديث وشعر، وكثير من الأمثال والإشارات التاريخية، فقد كان ابن الأثير مثقفاً ثقافة أدبية قوية، والتزم في رسائله السجع؛ لأنه كان يراه أعلى درجات الكلام، ولا يرى وجهاً لمن يذمه سوى عجزه عن أن يأتي به؛ وإلا فلو كان مذموماً ما ورد في القرآن الكريم، ويعلل وجهة نظره في استحسان السجع بأنه اعتدال في مقاطع الكلام، والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء، والنفس تميل إليه بالطبع.

وجمعت رسائله في ديوان بلغ عدة مجلدات، يبلغ المختار منها مجلداً واحداً، ولكني لم أعثر على هذا الديوان، بل رأيت نماذج له كثيرة في كتابيه المثل السائر، والوشى المرقوم.

وبلغت ثقته بنفسه في إنشاء الرسائل، والعلم بقوانين البلاغة حداً كبيراً؛ فكان يعارض شيخ الإنشاء في عصره: القاضي الفاضل؛ يكتب في أغراض كتبه، وحيناً يعرض له من المعاني ما يراه قد نقص عبد الرحيم؛ فمن ذلك أنه قد عرض عليه كتاب له، أرسله إلى بغداد على لسان صلاح الدين سنة ٥٧١، وضمنه ما أبلاه في خدمة الدولة: من فتح مصر،

<<  <  ج:
ص:  >  >>