يتخذ المرء مثله الأعلى شخصاً حيا يرقبه من قريب أو من بعيد، أو شخصاً تاريخياً تبهره عظمته، أو فكرة نبيلة تملكه، ويهب حياته لتحقيقها، فالتاجر مثلا قد يتخذ تاجراً آخر ناجحاً موفقاً مثلا أعلى له في الحياة، والحاكم قد يتخذ عمر بن الخطاب أسوة له حسنة، والمصلح يتخذ فكرة صالحة مثلا أعلى يسعى لتحقيقه.
وإذا اختار الإنسان مثله الأعلى شخصاً حيا أو تاريخياً استطاع أن يدرس سيرته، فيلمس فيها نواحي القوة والعظمة، ويدرس المناهج التي اتخذت لتذليل الصعاب وتحطيم العقبات، والوسائل التي اتبعت لنيل الظفر والفوز بالنجاح، فتشحذ هذه الدراسة من عزيمة المقتدي، ويرى فيها الدروس الصادقة الواقعية. غير أن الواجب في الاقتفاء ألا يلغي المرء شخصيته فيكون ذيلا لسواه، لأن إضعاف الشخصية، ينافي طلاب الكمال والتسامي إلى المجد. والتقليد إنما يحصل في نوع الفضائل التي تبهر كعدل عمر وصلابته، ووطنية مصطفى كامل ومثابرته، وقوة المتنبي وفحولته؛ أما إذا اتخذ الشاعر شاعراً آخر مثلا له، وظن أن معنى المثل الأعلى تقليده في أفكاره، والسرقة منه في معانيه، فإنه يعيش عيلا عليه، لا يرتفع إلى مستواه، ولا يمنحه الناس من الإجلال ما يمنحونه لمن يقلده، فاحتفاظ المرء بشخصيته، وطبع أعماله بطابع هذه الشخصية شرط أساسي للنجاح ونيل المجد.
كيف نختار لأنفسنا مثلا عليا؟ ومن أين نأخذها؟ وكيف ننجح في الوصول إليها؟ مسائل ثلاث مهمة؛ فإن نجاح المرء في الوصول إلى المثل الأعلى يتوقف إلى حد كبير على اختيار هذا المثل؛ ولا يكون الاختيار حسناً إلا إذا عرف المرء نفسه، ودرس اتجاهاته وميوله، وعرف مقدار ما لديه من قوة الإرادة وصلابة العزم، ثم بنى اختياره على أساس من هذه الدراسة الدقيقة. والإخفاق إنما يأتي من غرور المرء بقوته، وظنه أن له من المزايا والصفات ما ليس له، أو من خطئه في تعرف ميوله واستعداده، فيضل الطريق ويتيه، فإذا كانت استعدادات الإنسان وميوله تتجه مثلا إلى التجارة، والتصرف في شئونها، فليختر مثله الأعلى المجد التجاري، وليثق بأن النجاح سيكون حليفه. أما إذا اختار أن يكون مثله الأعلى كاتباً يشار إليه بالبنان فهنا يكون الإخفاق ولا يتم الظفر بإحدى الغايتين.
والمثل العليا لها مصادر شتى، منها كتب التاريخ، فهي حافلة بالنماذج السامية للإنسانية، يستطيع القارئ أن يتخذ منها ما يتفق مع ميوله وما يراه جديراً بالتأسي والقدوة. في تلك