وقد تملكه الفزع، من ناحية إلى أخرى، في شتى الاتجاهات، دون أن يدري أين يذهب. ونشج بالبكاء وهو ينادي (أماه، أبتاه) وقد تبللت حنجرته بما أبتلعه من لعاب، وانحلت عمامته الصفراء، وثقل جسمه الخفيف، وصار ككتلة الرصاص، بعدما ابتلت ملابسه بما تصبب من جسمه من العرق وما أختلط بها من غبار.
وبعد أن هرول هنا وهناك مقهوراً على أمره، وقد تحول صوته إلى عويل. وشاهد عن بعد، خلال عينيه وقد علتهما طبقتان شفافتان من الدمع، رجالا ونساء راقدين على العشب الأخضر، يتحدثون ويتسامرون. وحدق فيهم بين رقع ملابسهم الصفراء اللامعة، لعله يشاهد أثراً لوالدته أو والديه بين أولئك الناس، وقد بدا المرح على ملامحهم، يتحدثون ويضحكون لمجرد الضحك والحديث وجرى لفي حرارة مرة أخرى، وقصة حرم معبد احتشد فيه الناس. كانت كل بقعة من الأرض تموج بالناس، وعدا بين أرجلهم، وكانت صيحاته الصغيرة تنادي لهفة (أماه، أبتاه) وازردادت كثافة الحشد قرب المعبد. كان الناس يتدافعون بالمناكب، رجال ثقلاء بأعين لامعة من الغدر وأكتاف ثقيلة. وجاهد الطفل يشق طريقه بين أقدامهم، ولكن كانوا يدفعونه هنا وهناك بمخالبهم المتوحشة. وكادوا أن يطئوه بأقدامهم لولا أنه صرخ يقول في صوت جوهري (أبتاه، أماه) فسمعه رجل منهم وانحنى في مشقة ورفعه بين ذراعيه.
وسأله الرجل وهو ينأى به بعيداً عن هذه الكتل المتراصة (كيف جئت إلى هنا يا بني؟ أبن من أنت؟).
وبكي الطفل في مرارة زادت عن ذي قبل وصاح قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).
وحاول الرجل أن يهدئ من روعه فأخذه إلى العجلة الطائرة وقال له وهو يقترب منها (ألا تود أن تجلس على أحد جياد العجلة.؟)
وخرجت من حنجرة الطفل آلاف النشجات المدوية، ولم يجب إلا بقوله صائحاً (أريد أمي، أريد أبي).
واتجه الرجل صوب المكان الذي لا يزال المشعوذ يصفر فيه بمزماره إلى الكوبرا الراقصة وقال في رجاء (استمع إلى هذه الموسيقى الساحرة يا بني) ولكن الطفل صم أذنيه وصاح (أريد أمي، أريد أبي).