والإيمان بالله العظيم، وذكره والاتصال به، تملأ النفس عظمة وقوة، وتصغر أمامها الأهوال، وتذلل العقبات، فتنطلق كأنها إرادة الله في خلقه، وقدره في عباده. ولله من عظماء خلقه أقدار. يسلطهم ويمكنهم، فإذا هم ينشئون الأجيال، ويخلقون الإعصار. لا يعتلون بالزمان والمكان، ولا يفرقون بين اليسير والعسير، والبعيد والقريب، يصدق الله أقوالهم، ويبر أقسامهم. ويقسم بأيديهم أرزاقه، ويصرف بعزائمهم أقداره. بصرهم الإيمان، وأضاء لهم العقل والوجدان. . . لولا الإيمان بالله ما اهتدوا ولا قدروا، وما جاهدوا وما صبروا.
الإيمان بالله الواحد السلام، يوحد النفس ويملؤها سلاماً ووئاماً، وألفة ونظاماً، فتدرك الالتئام في الحق والخير والجمال والحب، وتعرف التنافر في الباطل والشر، والقبح والبغض. فتسير على الأرض سلاماً يهدي إلى السلام، ونظاماً يدعو إلى النظام، وجمالا يهفو إلى الجمال، وحباً يرشد إلى الحب.
وما أحسب الشر وما يتصل به في هذا العالم إلا قلقاً وتنافراً أو سبيلاً إلى القلق والتنافر. ولا أرى الخير وما هو منه بسبيل إلا سكينة وائتلافاً، أو وسيلة إلى الائتلاف والسكينة. وإذا لم يوحد النفس الإيمان، تنازعتها أصنام من آلهة أو أهواء، وتجاذبتها أوثان من أرباب أو مطامع، فلم تلتئم في نفسها، ولم تعرف الالتئام في غيرها.
ذلكم مبدأ الضلال والهدى، والشقاء والسعادة.
والإيمان بالله الذي لا يحده زمان ولا مكان، يطلق النفس من قيودها، ويخرجها من حدودها ويرفعها على الزمان والمكان، فإذا هي، فيما تحب وتكره، وفيما تأتي وتذر، سنة من سنن الله لاتحول، وقانون من قوانينه لا يزول. فتستكبر على الشهوات المحدودة، والنزعات الضيقة، ولا تبالي المنافع والمضار الخاصة، فيسمى الإنسان لنفسه ولأسرته ولطائفته وللناس جميعاً، على قوانين الحق العامة، وسنن الخير الشاملة، لا يسعه غيرها، ولا يتسع هو لغيرها. وكذلك يعلو على الأهواء والعصبيات والنزعات والنزغات المتزاحمة المتصادمة، المتنازعة المتقاتلة، المنفرة المفرقة، المهلكة المدمرة. إنما انتصاره للحق والحق لا يتغير، وتحيزه للعدل والعدل لا يتعدد. فهو في توحيد من إيمانه، ومن عقله ووجدانه، ومن قوله وفعله، في سره وعلنه.