يدك، يا صاحبي، حين ألقى الموظف الشاب عليك درساً عنيفاً قاسياً لن تنساه أبداً، لأنه أمتهنك أمام التاجر الأجنبي ولأنه سخر من أمرك وعبث برغبتك، فما فاستطعت أن تفعل شيئاً.
الآن برح الخفاء واستحالت الهمسات إلى كلام يسمع، تتناقله الألسن في نواحي المصلحة ويتشدق به صغار الموظفين، فما لبث أن بلغ مسمعي المدير العام. وذعر المدير للخبر وعجب أن يرتدغ في هذه الحمأة موظف في المصلحة ذو رأي ومكانة. وتحدث إليك بالأمر فما استطعت أن تنكر وأمامك الموظف الشاب يرمقك بنظرات يتطاير الشرر من خلالها. وترفق بك المدير فأرغمك على أن تترك المصلحة كلها في أقرب وقت.
ولفظتك المصلحة لتلقي بك في زاوية من وزارة المالية وان رائحة النتن لتفوح من بين مخا زيك، وأصبحت مفتشاً بالمالية. والمفتش في رأي الحكومة موظف واهي الهمة أو وضيع الكرامة لا يستطيع أن ينهض بعمل ولكنه يعتاص عليها أن تقذف به إلى الشارع لأن القانون يحميه، وهو - دائماً - يكتب التقارير لتلقى في سلة المهملات.
والآن، يا صاحبي، لقد انثلمت كرامتك ولوثت الأقذار ذكرك من اثر الإدمان على الخمر، ولكنك ما تزال تأنس إلى الشراب وتطمأن إلى الكأس، فعمى بصرك عن حاجات البيت فهذه زوجك تضيق بك لأنك تنفق جل مالك في التافه الوضيع وتغضي عن رغبات نفسها، ولأنك - دائماً - محطم الأعصاب ثائر النفس كثير الشغب في المنزل وفي الديوان وفي الشارع. وإن أولادك ليفتقدون عطفك أحوج ما يكونون اليه، ويفتقدون مالك حين يحسون الضياع والشقوة وإن شهواتهم لتدفعهم إلى اللباس الأنيق والطعام الشهي والى الحلوى واللعب فلا يجدون شيئاً منها، ويفتقدون عقلك حين تترنح في فناء الدار من أثر الخمر، ويفتقدون الهدوء حين يعج المنزل برفاق السوء.
فهل تستشعر - يا صاحبي - اللذة في الكأس أو تلمس السعادة في الشراب؟ إن قلبي يرثي لحماقتك وإن نفسي تساقط حسرات لجهلك، لأنني عرفتك يوم أن كنت فتى متوقد الذكاء راجح العقل قوي الحجة تفور شباباً وقوة وجمالاً. . .