ما أعجب الحال، لي قلب بمصر وفي ... دمشق جسمي، ودمع العين في حلب
وتنتابه ذكرى أيامه الماضية وما جنت فيه من لذة ومتاع، والذكرى ضرب آخر من الشكوى، فيصف شعوره في أبيات موجعة حيث يقول:
رعى الله دهراً كنت فارس لهوه ... أروح إلى وصل الأحبة أو أغدو
جوادي من الكاسات في حلبة الهنا ... كميت، وإلا من صدور المها نهد
إلى قوله:
زمان تولى بالشبيبة وانقضى ... وفي فيَّ طعم من مجاجته بعد
عاد ابن نباتة إلى مصر بعد رحلة طويلة غير موفقة، إلا في فترات متفرقة. فلقي من الناصر حسن سلطانها الجديد شيئاً من العطف شكره عليه. ولكن كانت لا تزال جراح قلبه نافلة، وعبارات الشكوى على شفتيه حيث يقول:
قضيت العمر مداحا ... وهذا يا أخي الحال
فقير الوجه والكف ... فلا جاه ولا مال
آمن ابن نباتة أخيراً بالحظ إيمان المضطر، وزهد زهد المغلوب، يقول:
هي الحظوظ فعش منها بما وهبت ... ولا تقل عالياً عزمي ولا دونا
ويقول:
منعتني الدنيا جنى فتزهد ... ت ولكن تزهد المغلوب
ويلتمس لكساد أدبه المعاذير، فيقول:
لا عار في أدبي إن لم ينل رتباً ... وإنما العار في دهري وفي بلدي
والإيمان بالحظ قد يكون مظهراً من مظاهر اليأس، ودليلاً على القلق والبؤس، إذ لا يصل المرء إلى حظيرته إلا بعد مدافعة وممانعة، وأمل وإخفاق. آمن ابن نباتة بالحظ ولكن إيمان البرم به الساخط عليه، الذي عالجه فلم ينجع علاجه، وأوقد له فخبأ سراجه. آمن به إيمان المهزوم المستسلم، وفي نفسه ثورة عليه مكبوتة.
غير أن هذا الحظ الذي تعصى عليه، والقدر الذي عبث به، قد انضجا في شعره فن الشكوى. ولكم لهذا الفن بين الناس من عشاق!
(حلوان)