للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الآخرة. قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك هذه الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه في ليلته ولبس المسوح، وخرج مختفياً هارباً، ولا يعلم به أحد؛ ولم يقف الناس على خبره إلى الآن. وفي ذلك يقول عدي بن زيد:

وتبين رب اَلخوَرْنقْ إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير

سره ما رأى وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير

فارعوى فلبه وقال فما غب ... طة حي إلى الممات يصير

وقد أكثر العرب من ذكر اَلخوَرْنقْ في أشعارهم وصار مضرب أمثالهم ولم يتصدوا لوصفه وصفاً مسهباً. غير أن المؤرخ يستنتج من أقوالهم أنه كان طرفة من طرف البناء جامعاً بين العظمة وبهاه الزخرف وروعة الموضع. وجاء في كتاب (البرهان القاطع) مادة سنمار: إن السنمار البناء الرومي بنى اَلخوَرْنقْ وأجاد في صنعة كلُّ الإجادة، حتى أن القصر الذي بناه كان يتلألأ ليلاً ونهاراً بالألوان المتنوعة نظير أبى قلمون، فكان يظهر صباحاً أزرق وظهراً أبيض وعصراً أصفر. وفي ذلك خطاب شريح القاضي للضحاك بن قيس: يا أبا أمية أرأيت بناء أحسن من هذا؟ قال: نعم السماء وما بناها.

وفي الروايات أن بناء اَلخوَرْنقْ دام ستين سنة فكان يبنى سنمار السنتين والثلاث، ويغيب الخمس سنين وأكثر من ذلك، فيطلب فلا يوجد؛ ثم يأتى فيحتج حتى فرغ من بنائه. ولا يخفى على القارئ المحقق ما في هذه الروايات من المبالغة القصصية، وما عليها من مسحة الافتعال؛ لأننا إذا دققنا النظر في زمان ملك النعمان نرى أنه حكم تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، فكيف جاز أن تستغرق مدة بنائه ستين سنة مع أن ملك النعمان الذي أمر ببنائه لم يتجاوز الثلاثين بعد أن قتل سنمار وبقي في القصر مدة طويلة.

ومما كان يزيد هذا الجوسق بهاء وروعة موقعه الطبيعي الفتان، فكان يشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار. وكان البحر تجاهه، وفيه الملاحون والغواصون والحوت، وخلفه البر وفيه الضب والظبي، ويقابل الفرات فيدور عليه على عاقول كالخندق ولهذا افتتن المؤرخون والشعراء بهذا القصر وهاموا في الإشادة بذكره فقال المنخل اليشكري من قصيدة:

ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير

<<  <  ج:
ص:  >  >>