حين إلى حين لأرجع إلى كثير مما قال، ولأراجع كثيراً مما قيل فيه، سواء أكانت المراجعة لأقوال القدامى، أم كانت لأقوال المحدثين.
إن شخصية أبي العلاء لتعد في رأيي أهم شخصية قلقة في الفكر العربي كله؛ ومن هنا يلذ لي أن أعود إليه، كما تلذ لي العودة إلى الشخصيتين الأخريين المقابلتين في الفكر الغربي، وأعنى بهما بودلير وليوباردي!
إن الشخصيات القلقة تستهويني دائما؛ تستهويني لأنها مصدر خصب من مصادر الدراسة النفسية، تلك التي تحيل الشخصية الإنسانية غرفة تشريح يتكشف بين جدرانها وتحت لمسات المبضع مكامن الداء ومنابع الانحراف. . . إن هؤلاء الأعلام الثلاثة - وإن افترقوا في الوطن والدين واللغة - إلا أنهم يلتقون في ميدان واحد توجههم فيه نزعة نفسية واحدة: هي القلق. . . والقلق - كما يقول صديقي الأستاذ راجي الراعي - هو أبرز صفحة في كتاب العبقرية!
لو قال الباحثون عن أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كلُّ عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره التشاؤم في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!
من الخطأ - في رأيي - أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!
أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأى واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كلُّ يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات!
نعم، فلم يكن أبو العلاء إلا تاجر آراء على التحقيق. . . آراء فلسفية مختلفة متناقضة لا