تستطيع أن تصدق رأياً منها لتكذب الآخر، فإما أن تقبلها جميعاً، وإما أن ترفضها جميعاً، أما أن تقف منها عند رأي بعينه لتخرج منه بلافتة كبرى هي (التشاؤم) فذلك أمر تثور عليه فلسفة أبي العلاء كلُّ الثورة، لأنها فلسفة الإثبات هنا وفلسفة الإنكار هناك! إن وجه الشبه بين تاجر البضائع وتاجر الآراء هو أنك لا تستطيع أن تنسب الأول إلى صنف واحد مما يقدمه إلى الشارين، ولا تنسب الثاني إلى رأي واحد مما يقدمه إلى المريدين؛ وإنما تستطيع أن تنسب الأول إلى أصناف بضائعه كلها فتقول عنه مثلاً إنه يبيع (البقالة)! وهكذا كان أبو العلاء في حقيقة شخصيته وحقيقة فلسفته. . . تاجر آراء. . . فيها التشاؤم وفيها التفاؤل، وفيها الإلحاد وفيها الإيمان، وفيها الإقبال وفيها الإعراض، وفيها الهدم وفيها البناء، وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي (القلق)!
هذا القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء؛ فإذا أراد الدارسون أن يقتفوا آثاره ليصلوا إلى أسبابه، فليس أمامهم غير حقيقة واحدة، هي أن الذبذبة الفكرية ما هي إلا انعكاس مباشر للذبذبة النفسية. . . وهذه هي المرحلة الثانية التي تدفع بهم إلى الباب الأخير ليفتح على مصراعيه!
ولنا بعد ذلك أن نسأل: ما هو المفتاح الأصيل الذي نعالج به هذا الباب لنضع أيدينا على سر تلك الذبذبة التي وجهت العقلية العلائية هذه الواجهة التي لا تطمئن إلى رأى ولا تستقر على حال؟ أهو العمى؟ أهو تلك الآفة التي أصيب بها وحرمته نعمة الضياء وردد وقعها على نفسه في كثير من شعره؟!
إن العمى قد يبعث على الألم، وقد يدفع إلى الشكوى، وقد يحض على والتشاؤم فما بال الرجل قد خرج عن هذه الدائرة وتذبذب بين الأمر ونقيضه، وأنحرف مرة نحو اليمين ومرة أخرى نحو الشمال؟!
ونعرض للمشكلة من زاوية أخرى فنقول: إذا مال الباحثون إلى الأخذ بهذا التفسير الذي يلتمس في الآفة الجسيمة سر النظرة إلى الحياة فهو تفسير غير مقبول. . . فما أكثر المكفوفين الذين امتلأت حياتهم بالنور، وامتلأت نفوسهم بالرضا، ونظروا إلى الدنيا من خلال منظار أبيض يحمل الدمعة في عيونهم فرحة وابتسامة، وما أكثر المبصرين الذين