نظروا إلى الدنيا من خلال منظار أسود فقضوا كلُّ أيام الحياة وهم يتخبطون في الظلام!
ليست الآفة الجسمية إذن هي مصدر هذا القلق الذي أقض مضاجع الفكر في شخصية أبى العلاء، ولكنه فيما أعتقد شئ آخر نفسر على ضوئه المشكلة دون أن نحمل النفسية العلائية ما لا تطيق. . . إنك لو رحت تبحث عن سر القلق والاطمئنان في كلُّ شخصية إنسانية لما وجدته ممثلا إلا في كلمتين: هما فراغ الحياة، وامتلاء الحياة!
نعم، وهذا هو المفتاح. . . المفتاح النفسي البسيط الذي لا غموض فيه ولا تعقيد. . . لو مأساة تحفل باللوعة والألم والعذاب، ولغدا الفكر الثابت المستقر وهو نهب لزلزلة الرياح والأعاصير!
ولو امتلأت الحياة عند المبصر وغير المبصر لأصبحت في رأى الشعور أملا كبيراً تتبخر تحت أشعة المتوهجة قطرات الهم والأسى وتفر أشباح الحرمان!
الفراغ في حياة أبي العلاء ولاشيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصيلة لتلك الذبذبة النفسية ممثلةً في هذه الذبذبة الفكرية!
ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟
إنها ثلاثة ألوان: فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردها جميعاً إلى الحرمان؛ فنفس أبي العلاء كان تشكو الحرمان من العطف وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة!
وقف طويلا عند هذا الحرمان؟ الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيره بين ألف رأى وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر حيث يتجلى التناقض التضارب والاختلاف!
هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في توجيه العقول والأفكار!
لقد سألني الأديب العراقي الفاضل: لو يكن أبو العلاء أعمى فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك؟