وكأن هذا العزم أزال طرفاً من الحيرة التي كانت تقلق حياة رفيق، فإذا البشر يعاوده، وإذا سيماء المرح تشيع على محياه، وإذا هو يشفى من نكسته في وقت يسير، ويأخذ يعد عدته للسفر إلى بلاد الغرب.
ولكنه ما لبث أن فاجأني يوماً بأنه قد عدل عن السفر، وأنه لا ينوي أن يغادر بيروت. وحين سألته تعليل هذا الانقلاب، دعاني إلى تناول الغداء معه ذلك اليوم، ووعدني أن يزيل فضولي إذ أوافيه إلى داره عند الظهيرة. وجعلت أترقب حلول موعد اللقاء، وبي عجب لا ينفضي، ورحت أتساءل: لعل رفيق لقي فتاة حظي جمالها من إعجابه بما لم يحظه جمال سابقاتها الثلاث! أو لعل (مها) نفسها عادت إليه تستغفره، فصفح عنها، واستسلم لجمالها الطاغي؟. . .
وظللت في حيرة وتساؤل شديدين حتى بلغت داره عند الظهر فاستقبلني بترحاب لم أعهده منه، وما عتم أن دلف بي إلى غرفة الطعام. . .
وسرعان ما لا حظت أن المائدة كانت قد أعدت لثلاثة أشخاص، وابتسم رفيق إذ أدرك أني لاحظت ذلك. . . ولكنه امتنع عن أن ينغم بحرف.
وإن هي إلا برهة وجيزة حتى قطع صمتنا وقع خطى متجه إلينا، وقبل أن يتاح لي أن ألتفت إلى مصدر الصوت، كان رفيق قد نهض مرحباً. . .
وحين عدت إلى الجلوس، بعد أن جلست هي. . . كنت ملتاث الحس، مختلط الذهن، أكاد لا أميز معاني الأشياء.
لقد كانت هي. . . علياء، خادمة رفيق. . .
يا إلهي. . . إنها هذه الفتاة التي لم تكن تمتاز بأي حظ من الجمال. . . هذه الفتاة التي كانت تخدمه في إبان مرضه، فلم أكن أوليها نظرة من نظراتي. إنها خادمته. . . خادمته. . .
وانتزعني هو من وهدة التفكير المضنى، حين سمعته يقول لي:
- إنها علياء. . . وقد عرفتها ولا ريب. . . لقد خطبتها أمس.
وكنت مطرقاً ببصري إلى المائدة لا أرفعه إليه، حتى رأيت يده تمتد إليَّ منبسطة تبغي