شبابك، وإن بيدك المال وافراً، فلماذا لا تتزوج إحدى فتياتك الثلاث، وكلهن رائعات الحسن، فتحظى بالطمأنينة التي تفتقر إليها؟
وحاول أن يضحك وأن يعمد إلى المزاح، ولكن سرعان ما انقبضت أسارير وجهه ونظر إليَّ بإحداد، ثم قال بعصبية:
- لا. . . لست أطمع في واحدة منهن. . . إنهن لسن جميلات. . . وأنا لا أحب إحداهن ولست أرغب في الزواج.
وحين حاولت أن أظهر له خطأ نظرته إلى جمالهن قاطعني يقول:
لا. . . ليست واحدة منهن في مثل جمال (مها) ويخيل إليَّ أني لن ألقى بعد الآن فتاة جميلة مثلها، وإني سابقى أبد الدهر أعزب.
وكان هذا كلُّ ما نطق به تلك الليلة، ثم أنصرف عني، على شدة رغبتي في أن أستمع إليه وألتمس المزيد مما يشجيه. . . والحق أن هذه العبارات اليسيرة كانت غامضة لم تحسر لي عن طوايا نفسه. وكل ما خلته ساعتذاك أن امتناعه عن التفكير بالزواج عائد إلى هذا الخوف الغامض الذي تمتلئ به نفسه من الخيانة. . . ومن المرأة. . . ومن الجمال. . . ومع ذلك فهو لا يلتمس غير المرأة وغير الجمال! إنه دون ريب لا يعي هذا الخوف، ولو كان يعيه لما غرق في هذه الحيرة التي تجعله تائهاً في خضم الحياة. . .
ثم وقع صديقي رفيق ذات يوم يرم فجأة في مرض أقعده زهاء ثلاثة أسابيع في داره. وقد عدته في هذه المدة غير مرة، وكان يشكو (الدوسنطريا)، ولكني أيقنت أن مرضاً نفسياً هو الذي أودى بصحته، وإنه كان يشكو عقدة توهن قواه.
وفي تلك الفترة، عادت جراحات الذكرى تدمي روحه وضميره وترهق أعصابه، ثم صارحني بعزمه على أن يهجر البلاد ويسافر إلى أوربا. فإذا وجد راحة لنفسه استقر فيها، وإلا عاد بعد أن يكون قد التمس من العزاء والتفريج قدراً كافياً للانطلاق في طريق جديدة من طرق الحياة.
ولم أجد أنا مبرراً لأن أقنعه بالبقاء، بل لقد شعرت بأن عليَّ أن أحثه على مغادرة الجو الذي فجع فيه بعاطفته البكر، فلعله إذ يبتعد عنه يسلو ويتعزى. . . ولعله يجد هناك - في أوربا - المرأة الجميلة الرائعة التي تمحو من قلبه ونفسه صورة الفتاة الأولى التي يخيل