الحديثة) يقوم على أساس أن العقل (أعدل الأمور قسمة بين الناس، وأنصبة الناس منه متساوية. .) وقد يعجز الناس في عصر من العصور عن فهم ما يكتبه فيلسوف من الفلاسفة، بل قد يرمونه بالخلط والالتواء في التفكير، ويسخرون منه، وينالون من عقليته. وعندي أن ذلك لا ينهض دليلاً على استحالة فهم الناس لتلك الفلسفة، إنما مرده إلى قلة حظ هؤلاء من الثقافة، وعدم اعتيادهم التعمق في التفكير وخشيتهم من كل جديد يزلزل عقائدهم فضلاً عن كون الفيلسوف يعمد أحياناً إلى التعبير في غموض عن أفكار تخطر ببال كثير من الناس العاديين، ويستخدم أسلوباً فنياً مشحوناً بالمصطلحات الغريبة عنهم، فيقيم بذلك بينه وبين أذهانهم سداً منيعاً. ولذلك كانت لا تكاد تمضي حقبة من الزمن، يكون الشراح قد تناولوا فيها إنتاج الفيلسوف بالشرح والتفسير، وتكون العقول قد نضجت بعض الشيء، والإفهام تهيأت بقبول ما نبذت، فإذا المجنون عبقري خالد، والمارق قديس متبتل، ومذهبه عقيدة راسخة. وقد كان الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كنت) يقول: (جئت بمؤلفاتي قرناً قبل موعدها، ولن أفهم إلا بعد مائة سنة، وحينذاك ستقرأ كتبي وتقدر قدرها.) وقد صدقت نبوءة الفيلسوف العظيم فلم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى كان في كل قطر من أقطار أوربا مدرسة فلسفية بأسرها تستمد مبادئها من فلسفة كنت.
الفيلسوف إنسان:
إن الفيلسوف لا يأتي بدعا، ولكنه يرى ويسمع، فيحكم ويستنتج، وما يراه وما يسمعه أمور تقع تحت بصر الناس وسمعهم، وملكة الحكم أو ملكة الاستنتاج ليست وقفاً عليه، فالناس جميعاً يحكمون ويستنتجون؛ ولكنه أدق منهم حساً، ولديه من الفراغ والذكاء والصفات المزاجية ما يكفل له التعمق في تأملانه ومزاولتها أغلب الوقت، والانشغال بمحاولة فهم الكون عن كل ما عداها من شئون الحياة الجارية. ناهيك بقدرته على التجرد من أهوائه، والوقوف من حوادث الكون موقف المحايد: لا تعنيه التقاليد الموروثة والآراء الشائعة، إن تعارضت مع العقل. وكل امرئ بمقدوره ذلك ولو في فترات متقطعة عبر حياته. ويمكننا كمربين أن نعود النشيء كيف ينتزع نفسه - زمناً ما - من استغراقه في تيار الحياة اليومية، وكيف يستخلص العبر العامة من حادث مفرد، وكيف يتجرد من عواطفه، ويتجرد من تأثير غيره ليحكم في نزاهة، وينقذ في جرأة، ويسمو فوق المشاغل الجزئية التافهة.