لست أقصد بطبيعة الحال أن الناس جميعاً فلاسفة ولكنني أقصد أن كل امرئ بمقدوره أن ينتهج في حياته نهجاً فلسفياً، وأن الفيلسوف لا يفضل المفكر العادي إلا في الدرجة، وأقصد علاوة على ذلك ما أقصده أرسطو بقوله:(إذا لم يلزم التفلسف فلتتفلسف أيضاً لتثبت عدم لزوم التفلسف.) أي أن المرء ليس بوسعه إلا أن يتفلسف ما دام كائناً في عالم دائب الحركة، زاخر بالتطورات والمشاهدات والمفارقات كل ما يقع عليه البصر يثير العجب والدهشة، ويستفز نزعة الاستطلاع الكامنة في تحفز هو لا يستطيع أن يقف موقف المسجل لهذه الظواهر فحسب، فعقله دائب التساؤل، وهو قلق ما لم يصل إلى تفسير لما يرى، وتصور معقول للكون في مجموعة أو في ناحية من نواحيه. وهو إذا ما صاغ نظرية ما، هدأ القلق، وحقق - إلى حين - الطمأنينية العقلية التي لا غنى عنها للمضي في رحلة الحياة. قد تكون النظرية التي يفضي اليها تفكير المرء خاطئة أو قاصرة ولكن ذلك لا يقضى على قيمتها من حيث إنها كافية لإعادة الأمن العقلي إلى نفسه القلقة، والتعلل بها حتى يتهدى لتفسير نهائي. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن الوصول إلى تفسير نهائي، فلا يبرر ذلك أن ننكر الفلسفة أو نمتنع عن التفلسف كما حدث لبعض المفكرين: شكوا في قدرة العقل الإنساني، ويئسوا من بلوغ الحقيقة كاملة، فارتموا في أحضان التصوف، ومنهم من آثار الجهل على علم ناقص. يذكرني ذلك بالنقاش الطويل الذي احتدم بين سقراط - إبان إعدامه - وبين تلامذته حول وجود الروح وعلى خلودها، وبعد موافقة تلامذته عليها، بصعوبة المسألة وعدم جواز القطع برأي نهائي بصددها. حينئذ يتشجع أحد الحاضرين، (سيبيس) ويقول قولاً حكيماً: (يبدو لي يا سقراط، كما يبدو لك، أنه من المستحيل، أو بالأحرى من العسير جداً، بصدد هذه الأمور، أن نعرف الحقيقة في حياتنا هذه. ومع ذلك نرى من الجبن ألا نفحص بعناية فائقة كل ما أسلفنا قوله، وأن ندع جزءاً دون بذل قصارى جهودنا: ذلك أنه لا مناص من أحد أمرين؛ إما أن نعلم الحقيقة عن غيرنا وإما أن نكتشفها بأنفسنا؛ فإن استحال كلا الأمرين فلنتخذ من الآراء الإنسانية أقومها وأبعدها عن التفنيد، ولنمتط هذه الآراء كما نمتطي زورقاً يعبر بنا، مخاطرين، هذه الحياة حتى يتيسرلنا أن نعبرها على نحو أسلم وأقل تعرضاً للخطر. . . أجل إن لكل نظرة فلسفية قيمتها، وليس بقادح فيها بعدها عن الصواب أو قصورها عن مطابقة الحقيقة، ما دامت ضرورة