حيوية لتهدئة توتر الذهن عند ما يعجز عن حل مشكلة من المشاكل. وعلى هذا الأساس يحق لي أن أتحدث عن فلسفة شعبية تنطوي عليها حياة عامة الناس، وقد يصرح بها نبهاؤهم قولا كما سنبين:
فلسفة الخير والشر:
رجل الشارع إذ يقول:(كله فانٍ) إنما يركز في لفظين اثنين مذهباً فلسفياً ضافياً ملأ أسفار كثير من فلاسفة الأخلاق، لم يستمده من بطون الكتب ولا هداه إليه معلم، إنما هي مدرسة الحياة بتجاريبها تمده بالعرفان، وملكة الحكم السليم:(أعدل الأشياء قسمة بين الناس) تهديه إلى نظرياته. إنه يستقرئ الحوادث والكائنات، ويلمس انتهاء حياة كل كائن إلى الموت. كلما يقع تحت حسه ينمو ويزهو، ثم يذوي ويذبل. كل حي يدب على البسيطة دبيباً قد يتجاوب صداه في الآفاق، وينتفض من فرط القوة والحيوية، ويأتي من الأفعال ما نحمده وما ننكره، ثم إن هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى يتلاشى الدبيب، ويزول الصدى، وتخمد الحركة وتستحيل السيرة ذكريات لا تلبث أن تنمحي:
أتُرى الدنيا سوى دار سفار ... ذات بابين ظلام ونهار
كم وكم من ملك جمِّ الفخار ... حلَّ فيها برهة وارتحلا
حين لبى دعوة الداعي المطاع
ذلك ما يدور بخلد العامي حينما يخلو إلى نفسه يناجيها، أو إلى جماعته يؤانسها، أي حينما ينتزع نفسه من غمار العيش الرتيب، فيطل على الكون من قمة الفكر التي تشرف على الزمان والمكان، ويتحرر إلى حين من إلحاح الحاجات الجسدية التي تعطل التفكير الخالص ما لم ترتو. وحكيم الشعب الذي يقضي العمر لا يحمل حقداً أو ضغينة، ولا يحس إحناً أو سخيمة، يقدم للناس كل خير فلا يجد منهم غير الحسد ونكران الجميل، تقصد مضجعة خيانة الإنسان لأخيه الإنسان، وتترك عشرة الناس في نفسه ندوباً أليمة، حتى ليعصف به شك في وجود الخير في هذه الحياة التي نحياها، شكاً يعبر عنه غناء في أسى نبيل:
(يا زارع الودّ هو الودّ شجرهُ قل ... ولا سواقي الوداد نزحت وماءها قل؟) وقد يكون لشكه
هذا أبلغ الأثر في سلوكه العملي: إما نقمة وسخط على المجتمع فإعلان الحرب عليه وتلمس السبل للانتقام، وإما عفو وغفران فمضى على الصراط المستقيم لا يرعى في شيء