إن هذا الصخب المحيط بنا، وهذا القلق المستمكن في أنفسنا والظاهر في كثير من معايشنا ونظمنا وشرائعنا وأمورنا، وهذه الحيرة الدائرة بالناس على غير طريق إلى غير غاية، وهذا التناهر في الأقوال، والتخالف في الأفعال، كل أولئك مردة إلى فقد السلام في النفس الواحدة، وبين الأنفس المتعددة، في كل طائفة وكل قبيل وكل أمة ثم بين الناس أجمعين.
ولا سبيل إلى السلام إلا بالعدل يجمع الناس على شرائع من الحق وسنن من الخير والبر، ويقيها الأهواء المتصادمة في الأنفس المتنافرة، والأحداث المتلاطمة في الأمم المختلفة.
ومرجع العدل وأخوات له بها أمن الناس وائتلافهم وتوادهم وتعاونهم وأخونهم، وفيها الخير العميم والسعادة الشاملة، هو الإيمان بالله، والإيمان الذي يعظم النفس كما قلت آنفاً، ويجمعها ويرفعها عن الدنايا وعن سفاسف الأمور وعن الأهواء وعن المادة إلى معالي الأمور وجلائلها، وإلى الحق وإلى عالم الروح المتلائم المتناسق الطرد المنسجم.
نحن في عالم تتصادم آراؤه لأنها لا ترجع إلى أصل يوحد بينها، بل تنشأ عن نزعات ونزعات؛ وتختلف أقواله لأنها لا ترجع إلى صلة يجمعها ويؤلف بينها، وتتقاتل بما فقدت الحق والعدل، والمعاني العامة، والشرائع الهادية الجامعة.
ولا منجاة من التصادم والتخالف والتقاتل إلا بالسمو عن الأهواء إلى الخ وعن الظلم إلى العدل، وعن الأحداث الجزئية إلى القوانين الكلية. ولا يتسنى هذا إلا بالعلو إلى أصل الأصول وحقيقة الحقائق وهو الله تعالى مصدر الخير والجمال والعدل والسلام وما يتصل بأولئك جميعها.
هذا الكلام الموجز عنوان لمعان لاتحد، يعيا عنها البيان، وتحسر فيها العقول والألسن والأقلام وإنما هو إشارة إلى عالم فسيح، للعقل فيه مراد، وللوجدان في أرجائه مجال. فليفكر المفكرون، وليتأمل المتأملون، وليدع المصلحون، وليضرب الأخيار الأمثال، وليبين هذا للناس كل من أوتي نصيباً من العلم وحظاً من الرأي: غير آل جهداً ولا مقصر في فكر أو عمل حتى تستبين السبيل ويتضح النهج وتلوح الغاية ويستقيم المسير. والله ولى التوفيق.
أما بعد فهذه كلمات مخلصة لله، اطرد فيها، وفاض بها القلب في غير تكلف ولا تزيد ولا مراءاة.