ألا ليت من يدلني على لمحة خفيفة من الهجاء في هذه الأبيات، أم لعلها كلمة (أسود)(ويعني الشاعر بها أسود بن يعفر النهشلي) هي التي غامت في عين الأستاذ واحلولكت، فغمرت جو الأبيات بالسواد، وإن يكن لون المديح أبيض فلون الهجاء لا شك أسود، وكذلك أخطأ أبو تمام - عفا الله عنه - فأقحم في المديح هذه الأبيات السوداء، وقد غفل عن أن السواد لون الهجاء!
أستغفر الله وأتوب إليه!
هذا الشاهد وحده - وسائر الشواهد مثله في مبلغ المطابقة بينها وبين الدعوى - بين لنا بياناً صريحاً قاطعاً مبلغ وفاء الأستاذ بما أخذه على عاتقه وأراد أن يبذ بها الأوائل والأواخر من الاحتجاج لتلك الدعوى، وتعزيز ذلك الاتهام الخطير ضد أبي تمام.
لقد كنا نرقب أن نرى وجهاً جديداً من وجوه المعركة القديمة بين العلماء والشعراء، فإذا بنا أمام مهزلة تملأ النفس خجلاً وتغمرنا معشر أهل العلم بمعاني الخزي والاستخذاء!!
ومن حقنا وحق كل قارئ أن يتساءل إذ كان هذا مبلغ فهم صاحب كتاب (الهجاء والهجاءون) لشعر الهجاء، على النحو الذي رأينا - فيما يزعم - لهذه القطعة من صفة هجائية، فما عسى أن يكون الظن بكتاب يضعه في هذا الفن، ويريد أن يؤرخ به له، ولابد أن يعتمد - أول ما يعتمد بطبيعة الحال - على ما أثر في الأدب العربي من شعر هجائي ليكون مادة بحثه؟
وبعد فهل لنا أن نعتبر هذا مثلاً من أمثلة الدرس الأدبي الجامعي في هذه السنوات الأخيرة؟
وهل لمؤرخي الحياة الجامعية في مصر أن يروا في هذا الكتاب وثيقة تبين بعض مسالك هذه الحياة في هذه الأيام؟
وددت والله ألا يكون الأمر كذلك، وأن يكون مثل هذا الكتاب شذوذاً ولا يؤخذ به وفلتة لا تدل على الحالة العامة، فإنه ليحزنني أشد الحزن ويأخذ بأكظام قلبي أن تتكشف الحياة الجامعية أخيراً عن مثل هذا الاستخفاف، وأن ينفرج الرداء الجامعي عن مثل هذا الخزي!