على أن هذا لا يعنينا الآن، وإنما نحن بصدد استشارة لدعوى الخلط في أبواب الشعر، وقد أورد في عقب تلك التي اعترض بها من الأمثلة، مما أخطأ - عنده - أبو تمام - وأي خطأ! - فجعلها من هذا الباب، باب الأرض والمديح وحقها عنده أن يكون في باب الهجاء. فخطأ أبى تمام هنا إذن لا سبيل إلى اغتفاره أو تمحل العلل له، إذ هو - لو صح - غليظ كل الغلظ، شنيع غاية الشناعة، أن يمحو اسمه من ديوان الأدباء والمتأدبين، بل جدير أن ينأى عن خواص العامة، والمثقفين منهم أدنى ثقافة، أو الذين يملكوا منهم قدراً يسيراً من الذوق والإدراك، ليلحقه الحفاة الأقدام الذين لا يفرقون بين ما هو مديح ما هو هجاء!
فالاتهام - كما نرى - خطير غاية الخطورة، وبقدر خطورته هذه يحتاج مع الجرأة - وهي موفورة جداً عند صالح فيما يبدو - إلى بذل غاية الجهد في تأييده والتدليل عليه والاستشارة له، والتبسط في ذلك، وتحليل الشواهد تحليلاً تسطع فيه الحجج وتمتلخ به الشبهة. ولكن الدكتور لم يلبث - بعد أن يتشدق بالتهمة ويرفع بها عقيرته - أن انكمش وتضاءل في بسطها وبيانها وتأييدها وتوجيهه، فاكتفى من ذلك كله بالإشارة العاجلة المسرفة في العجلة، إلى بعض الشواهد التي اعتبرها حجة له، بإيراد مطالعها وحسب، دون بيان الموضع الحجة فيها.
وها هو ذا أحد هذه الشواهد، نورده كاملاً عن ديوان الحماسة لنتبين فيه مبلغ المطابقة بين الدعوى والدليل، وقد زعم الدكتور أنه مما يدخل في الهجاء، وهو من شعر حطائط بن يعفر:
تقول ابنة العَّباب رُهم: حربتنا ... حطائط، لم تترك لنفسك مقعدا
إذا ما أفدنا صرمة بعد هجمة ... تكون عليها كابن عمك: أسودا
فقلت، ولم أعي الجواب، تبينى: ... أكان الهزال حتف زيد وأربدا
أريني جواداً مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وليت شعري أين رائحة الهجاء هنا؟ ليتني أستطيع أن أدرك مهب هذه الرائحة التي زكمت أنف الأستاذ الفاضل، فجعلته يراها هجاء صريحاً برغم أبي تمام، بل برغم أنف كل من يقرأ الشعر ويلم به أدنى إلمام.