فقال له أبو جعفر: وكم تذبح يا أبا دلامة؟ قال: أربعاً وعشرين شاة. ففرض له على كل هاشمي أربعة وعشرين ديناراً، فكان يأخذها منهم، فأتى العباس بن محمد في عشر الأضحى يتنجزها. فقال: يا أبا دلامة، أليس قد مات أبوك؟ قال بلى. قال: انقصوه دينارين. قال: أصلح الله الأمير لا تفعل، فإنه ترك على ولدين. فأبى إلا ينقصه. فخرج وهو يقول:
أخطاك ما كنت ترجوه وتأمله ... فأغسل يديك من العباس بالياس
واغسل يديك بأشنان فأفقهما ... مما تؤمل من معروف عباس
جزاك ربك يا عباس عن فرج ... جنات عدن وعن جرزتي آس
فبلغ ذلك أبا جعفر فضحك، واغتاظ على العباس، وأمره بأن يبعث إليه بأربعة وعشرين ديناراً أخرى
فرجل يفرض له المنصور عطاء على كل هاشمي لا بد أن يكون محبوباً، مقرباً عنده. ولم لا يقرب المنصور أبا دلامة وهو لا يستريح إلى منادمة أحد سواهن بل يضحك لدعابته في أدق الظروف؟
توفيت حمادة بنت عيسى وحضر المنصور جنازتها. فلما وقف على حفرتها قال لأبي دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: بنت عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها! فضحك المنصور حتى غُلب فستر وجهه.
وما أظنك إلا ضاحكاً مع المنصور لو سمعت من أبي دلامة مثل هذا الجواب الذي يدل على بديهة حاضرة، ونكتة سريعة، لا يستطيع صاحبنا أن يغلبها حتى في أحرج المواقف.
ويمثل هذه الطلاقة في الرد والسهولة في الجواب تستطيع أن تفرق بين نكتتين إحداهما متكلفة مصطنعة، والأخرى صادرة عن طبع وملكة. وأنت نفسك إذا سمعت النكتة الباردة - أو التي يسمونها (بايخة) - رفضتها وضجرت من سماعها ونبا عنها ذوقك، وإن أنت سمعت النكتة الموافقة المحكمة أدركت حلاوتها فضحكت لها من صميم قلبك، لأنك تحس فيها روح الدعابة كما تحس في الشعر الرفيع عبقرية الإلهام، فتنتقل من عالمك الصغير المحدود، إلى عالم الجمال والخلود!