فلتبكين لك النساء بعبرة ... وليبكين لك الرجال عويلا
مات الندى إذ مت يا ابن محمد ... فجعلته لك في الثراء عديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم ... فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتي أخرت بعدك للتي ... تدع العزيز من الرجال ذليلا
فلأحلفن يمين حق برة ... بالله ما أعطيت بعدك سولا
فلم سمع الناس هذه الأبيات بكوا. فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقلا أبو دلامة: يا أمير المؤمنين إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بأخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لأخواته:(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) فسرى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً - وهو مريض - ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر، فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلن ذلك فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغبظ: يا سليمان ادفعها إليه.
ولو لم يكن السفاح يكثر العطاء والصلة لأبي دلامة مقرباً إياه على سواه لما مدحه الشاعر هذا المدح العظيم، ولما رثاه أمام المنصور ذاك الرثاء البليغ، ولما بقى مقيماً على الوفاء له. ويظهر أن لحذق أبى دلامة في المسألة ومهارته في إظهار حاجته ولباقته في طلب ما يريد - أكبر الأثر في رغبة الخلفاء العباسيين بوصله ولا سيما الذي اشتهر ببخله، ومع ذلك (لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة منه خاصة) كما قال صاحب الأغاني.
وحسبك أن تعلم أن أبا دلامة دخل على المنصور يوماً فأنشده:
أما ورب العاديات ضبحا ... حقاً ورب الموريات قدحا
إن المغيرات على صبحاً ... والناكئات من فؤادي قرحا
عشر ليال بينهن ضبحا ... يجلعن مالي كل عام صبحا. . .