(الصرفة) وما كان له من الأثر في نشأة هذه العلوم، والمؤلف في بلاغة الجاحظ على الخصوص لا يقبل منه أن يلصق هذا المذهب بالجاحظ ثم يمر كأن الأمر من الهوان بحيث تكفي فيه الكلمات. بل كان الواجب أن ينقب في كتب الجاحظ عن هذا المذهب، ويحققه، ويبين مدى تأثر الجاحظ به، ومدى تأثيره في علماء عصره، وقد رجعت إلى النص الذي نقله من كتاب الحيوان، فبدي لي فيه أمر أنا ذاكره بعد أن أثبت هنا ما يقوله الرافعي رحمه الله في نسبة مذهب الصرفة إلى الجاحظ قال عن هذا المذهب أولا (وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم اللذين افتتحوه وابتدعوه لكان ذلك من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنهم قد عرفوا) ثم قال ثانيا عن مذهب الجاحظ نفسه: (أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال تشير إلى بعضها في موضعه، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في منخل. . . ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها، وأومأ إليها عن عرض، فقد سرد في موضع من كتاب الحيوان طائفة من أنواع العجز وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها، ورفع ذلك القصد من صدورهم ثم عد منها (ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة لقراءته بعد أن تحداهم بنظمه) وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له، أو نبه عليه، أو هو يكون ناقلا ولا ندري).
قلت وفي كلام الجاحظ ما يؤيد الشطر الأول من هذا الكلام وهو أنه يرى في الإعجاز ما يراه أهل العربية، فقد قرأت في كتابه البيان والتبيين تصريحاً بأن العرب يعجزون عن أن يساموا الرسول في البلاغة، قال (فإذا رأت مكانه - يريد النبي صلى الله عليه وسلم - الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن تعبد للمعاني، وتعود نظمها، وتنضيدها وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مدافنها وإثارتها من أماكنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم، واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد خولوه قليلا مما يكون معه على البداهة والفجاءة من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله). فإذا كان هذا رأيه في بلاغة