الرسول، فلا يمكن أن يكون رأيه في بلاغة القرآن ما يفهمه العلماء من مذهب الصرفة، وهو أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، ولكن الله صرفهم عن أن يعارضوا على أنه في ذاك الموضع من كتاب الحيوان التصريح بعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن قال:(وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد. الخ).
هذا. والذي يظهر - والله أعلم - أن القائلين بالصرفة لم يكونوا يقصدون إلى أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، وأن الله صرفهم عن هذا الإتيان، حتى يثبت أن القرآن في متناول البشر، كما فهمه طائفة من العلماء، وأطالوا الرد عليه، وبديهي أن هذا لا يشمل آراء أولئك اللذين صرحوا في مقالاتهم بأن القرآن غير معجز وأن الناس يقدرون على مثله، وعلى أحسن منه، ومن أمثال الجعد بن درهم - وإنما الذي افهمه من مذهبه أن الله منع العرب أن يأتوا بمعارضة للقرآن، مع أنهم غير قادرين عليها، وإنما صرفهم لئلا تكون فتنة، وهذا صريح في كلام صريح في كلام الجاحظ حيث يقول:(وصرف نفوسهم - يعني العرب - عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنساء وأشباه النساء ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض الأعراب، ولكثر القيل والقال) وهذا كلام واضح جداً وصريح في أن الجاحظ لا يجعل الصرف عن المعارضة هو السر في الإعجاز، وإنما يجعل الصرف أمرا ثانويا جاء بعد التحدي والعجز، وأنهم لو عارضوا لوجدوا من يستجيد كما يقول في موضع آخر (فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال) ونحن يعنينا الشطر الأول من هذا الكلام، أما الشطر الثاني فسقناه لأنا نلمح فيه أن الجاحظ