بنفرين إلى بلاده ليعرفهم بأمره حتى إذا تأكد السلطان من حقيقته أعاده معززاً مكرماً.
وكانت الصلات قائمة على أهل تفليس وبقية سكان من جهة جورجيا وبلاد المسلمين ومن جهة أخرى وأطلعني صديق لي على صور لبعض المساجد هناك وعلى المنائر وقد ظهرت بغير أهلة وقال الصديق هذا أن الناس يؤكدون أن زعيم روسيا من جورجيا والحقيقة أن والدته كرجية أما والده فهو من الشمال من إقليم (استويا) وهو الذي يطلق عليه الجبليون (قوشحا) وهذا الصديق من أهل هذا الإقليم ويقول إن غالبية (الأساتين) مسلمون ويغلب عليهم التشيع وأن والد الزعيم البلشفي كان مسلماً شيعيا وأمه كرجية مسيحية ولما مات أبوه أرادت أن تجعل منه قسيساً فأدخلته مدرسة دينية: فخرج منها يدعو إلى الثورة.
كنت في أواخر عام ١٩٢٨ بمدينة استنبول بين القارتين أوربا وآسيا على ضفاف البوسفور ومرمرة حيث يلتقي البحران وكان قد مضى تسعة أعوام أو عشرة على إمضاء هدنة الحرب الأولى، ومر أكثر من ذلك على قيام الثورة الروسية الكبرى التي حررت الملايين من البشر في زعمها وسببت تشتيت الآلاف من الناس ففر المرء من مواطنه ومن أمه وأبيه والتمس الخلاص من الموت، فكانت استنبول أول مرحلة من مراحل الهجرة الطويلة التي بدأت عام ١٩١٨ ولم تنته بعد.
وكان المهاجرون يفضلون العاصمة التركية القديمة لا لأنها بقعة من أجمل بقاع الأرض فحسب بل لأن من بينهم من هم من أصحاب العقول أي الفكر ومن هم من أصحاب القلوب أي العاطفة، فالأوائل يفضلون مركزاً قريباً يرابضون فيه للمراقبة وتلمس الأخبار في بلادهم أما أصحاب العاطفة فهم الذين لا يصدقون بوقوع ما قد حدث ولا يسلمون بما قد رأته أعينهم ولمسته أيديهم، إذ ليست الثورة عندهم إلا كحلم من الأحلام، فمثلهم ممن طالت به الغربة كمثل أهل الكهف (إذ يتساءلون بينهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) كذلك هم تمرَّ بهم الأيام والشهور والسنوات وهم في حلم دائم ينتظرون اليقظة لتأتي إليهم بالحقيقة أو هم يسرح بهم فيقولون: (سنفتح أعيننا يوماً لنعود إلى بلادنا وأعز شيء لدينا ولن نترك استنبول أبداً لأننا الطليعة الأولى التي ستترك أرض المهجر وتستأنف حياتها الأولى بأرض الوطن يوم يزول حكم البلاشفة وليأت من بعدنا من يشاء).
تلك كانت أمانيهم وهذه كانت آمالهم تقرأها مرسومة واضحة في عيون الفريق الأكبر من