شيء من شعره - وإنما هي كلمة تعجب المهدي وتسر قلبه، وهي - بعد ذلك - وسيلة هينة للوصول إلى شيء من المال الذي يجزى به الخليفة من كان لبقاً حديثهُ، حاضرة بهديته، سديداً جوابه.
وكما درس أبو دلامة نفسية المنصور فاستطاع أن يأخذ منه الجوائز السنية - على بخله - عرف كيف المهدي حق فهمه لكي ينال منه - في مختلف المناسبات - أكثر مما يحلم به. وتجده لذلك يحرص على إضحاك الخليفة الذي تفيض يداه كلما نهلل وجهه: خرج المهدي وعلى بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظبياً، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهديُّ ظبياً بسهم فصرعه، ورمى على بن سلمان فأصاب بعض الكلاب فقتله. فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤادَهْ
وعلى بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما، كل ام ... رئ يأكل زاده!
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية. ويقال: إن علي بن سلمان لقب منذ ذلك اليوم (صائد الكلب) وعلق به.
وما دام الخليفة يملأ عين أبي عين أبي دلامة ويشبع بطنه ويعطيه من المال ما يجعله مغموراً بفضله، فما على الظريف إلا الإخلاص في طاعته، والصدق في محبته، وإدخال السرور عليه ولو لم ينتظر منه شيئاً، لأن فضله سابق عليه: لذلك كان أبو دلامة ينتهز الفرصة ليثبت أن تقريب الخليفة له مصيب موضعه، فهو الذي يتنفس عنه كربة، ويسرى عنه غمه، ولو كان هو نفسه مغموماً.
مر أبو دلامة بنخاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهنَّ من كلُّ شئ حسن، فانصرف مهموماَ، فدخل على المهدي فأنشده:
إن كنت تبغي العيش حلواً صافياً ... فالشعرَ أعزبْه وكن نخاساً
تَنَل الطرائف من ظراف نهَّدٍ ... يحدثن كلُّ عيشةٍ أعراساً
والربح فيما بين ذلك راهنُ ... سمحاً ببيعك كنت أو مكاسا
دارت على الشعراء حرفة نوبة ... فتجرعوا من بعد كأس كاسا