ولعلك تذكر أننا استشهدنا بها على وصول أبي دلامة إلى المال بأسلوب الاحتيال، ولاسيما مع البخلاء من الناس.
والواقع أنه كان لا ينجو من تنادر أبي دلامة وهجائه إلا من أعطاه فأجزل عطيته. وإنه ليكون المرء أبغض الناس إلى قلبه، فإن هو وصله بشيء أضحى أحبهم إليه. وكان الناس يفرون من هجاء أبي دلامة فرارهم من تنادره بهم، فإذا تجرأ أحدهم على النيل منه أو ذمه عرف كيف يسلقه بلسانه الحاد.
دخل أبو دلامة على المهدي وعنده مُحرز ومقاتل أبنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة ويعيبانه عنده. فقال أبو دلامة:
ألا أيها المهدي هل أنت مخبري ... وإن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي؟
ألم ترحم اللَّحْييْن من لحيتيهما ... وكلتاهما في طولها غيرُ طائل؟
وإن أنت لم تفعل فهل أنت مكرمي ... بحَلْقهما من محرزٍ ومقاتل؟
فإن يأذن المهدي لي فيهما أقُلْ ... مقالاً كوقع السيف بين المفاصل
وإلا ندْعني والهموم تنوبني ... وقلبي من العلجين جمُّ البلابل
فلم يدعه الخليفة للهموم تنويه، وإنما ساعده على العلجين فقال له يتمتم أسئلته: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف درهم يفديان بهما أعراضهما منك؟ قال ذلك إلى أمير المؤمنين. فأخذها له منهما وأمسك عنهما.
فلا يُرضى المهديَّ إذا أن يسمع من أحد تجريحاً بشخص أبي دلامة لأنه واجدٌ فيه أنسه ومرحه، وقابلٌ إياه على ما فيه من عيب ومنقصة. . . ولا يرضى أبا دلامة ويُسكتُ لسانه السليط إلا المالُ يُعطاه وفيراً!
وكما يهجو أبو دلامة مخلوقاً أملاً في الوصول إلى بعض ماله، تراه يمدح آخر للغرض ذاته. وقد ينتظر مطلوبه من سواه كما حدث يوم دخل أبو دلامة على المهدي وعنده شاعر ينشده. فقال له: ما ترى فيه؟ قال: إنه قد جهد نفسه لك فاجهد نفسك له فقال المهدي: وأبيك إنها لكلمة عذراء منك أحسبك تعرفه! قال لا والله ما عرفته ولا قلت أنا إلا حقاً. فأمر للشاعر بجائزة، ولأبي دلامة بمثلها لحسن محضره.
ولقد صدق أبو دلامة، فما كان إطراؤه للشاعر عن معرفة سابقة به أو بعد وقوف على