إن اتهام ابن خلدون في وجه من الوجوه التي ذكرت، والتي يمكن أن تفترض كذلك، ليس بالأمر البسيط الهين. وإن ابن خلدون لو لم يكن له من الفضل إلا أنه المبتكر الفذ الذي سبق الأولين والآخرين من سلفه، في استنباط فلسفة علم التاريخ وفلسفة علم الاجتماع لكفاه ذلك فخراً. وحسب هذا الذي تراوده نفسه أن يتهم ابن خلدون في أية ناحية (فكرية أو نفسية)، أن يضع بين يديه شيئاً من أقوال عظماء الأجيال فيه، في شتى العصور ومختلف الأمم. وحينذاك - بعد أن يعرف ابن خلدون حق المعرفة - يستطيع أن يتحدث عنه بالكيفية التي يطمئن إليها. وأن تلك الأقوال التي أثرت عن كبار الباحثين في (ابن خلدون) لوافرة جمة يضيق عنها الحصر. على أنني برغم ذلك استشهد منها تأييداً لما ذكرته عن ذلك المؤرخ العلم الفيلسوف.
يقول (البارون فون كرايمر) العرباني النمسوى، في رسالته (ابن خلدون وتاريخه لحضارة الدول الإسلامية) أن ابن خلدون يؤرخ الحضارة الإسلامية وهو: (من بين المؤرخين المسلمين أول من خصص فصولاً ضافية للتحدث عن النظم السياسية وأنواع الحكم. . .).
ويقول الأستاذ (ثميث) الإنجليزي، وهو أحدث من درس ابن خلدون ونقده ما يأتي:(إذا وجب - مع بعض التحفظ - أن نعتبر ابن خلدون مؤرخاً للحضارة الإسلامية، فيحسن أن نتدبر ما إذا لم يكن قصد ابن خلدون الحقيقي، هو أن يقدم لنا أمثلة إيضاحية، ومجموعة تبين لنا ما يعبره موضوع التاريخ وجوهره. . . ولقد كانت هذه الفكرة العظيمة المستنيرة في فهم التاريخ بأنه سجل لتطور الإنسان الاجتماعي مترتباً على العوامل الطبيعية، وناشئاً عن تأثير الوسط وتفاعل الفرد والجماعة، خليفة بأن تجعل كتابة مفتتج عهد جديد. . .)
ويعتبر الأستاذ الهولندي (دي بوير) ابن خلدون فيلسوفاً (ويضعه في ثبت الفلاسفة المسلمين إلى جانب ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن الطفيل، وينوه بقيمة المنطق في صوغ نظرياته. ويصفه بأنه مفكر متزن. . .)
ويعبره آخرون كثيرون في مكانة لا تقل عن هذه المكانة التي وضعه فيها هؤلاء الباحثون. ويصرحون بذلك على مرأى ومسمع من أساطين العلم والفكر، دون أن يجدوا من يعارض قولهم، أو ينتقص قيمته من حيث الحقيقة، أو يتهمهم بالمبالغة في سرد هذه الحقيقة.
ونحن حين نعرف ابن خلدون عن هذا الطريق، نقف حيال آثاره موقفاً لا يزايلنا معه