حتى المساء في جميع أنحاء هذا البلد الكبير، تصور المسافات التي اقطعها كل يوم: ذهبت اليوم صباحا إلى (طرابية) وعدت منها إلى (مقرى كوي) وأنت تعلم تباعد هذه المسافات وتنائي بعضها عن بعض. على هذه الصورة يجب أن اشتغل في أربعة أطراف البلد؛ فإذا كان الصيف احتملت كل ذلك، لان النهار طويل أتمكن فيه من تأدية دروسي من غير كبير مشقة ولا عناء، أما في الشتاء فالمشقة فوق الطاقة وخاصة في مثل هذه الأيام عند شدة النوء وكلب الشتاء، لقد غلبني اليوم البكاء اكثر من مرة، ولا أتذكر أني تأخرت مثل هذه الليلة، وما الذي أقوله الآن في البيت لوالدي؟
وهنا انقطعت عن الكلام ولم تجسر على إتمام جملتها، لأنها فجأة شعرت بخجل من سردها تاريخ حياتها، ولما لم تجد في نفسها القوة على إتمام كلامها غيرت مجرى الكلام وقالت وهي تنفض ذراعها المبتلة من المطر.
- لقد ابتلت ثيابي.
فقلت لها:
- إن مظلتك صغيرة فاطويها وخذي مظلتي فهي تحفظك من المطر.
ولكنها لم تقبل وقالت:
- أشكرك يا سيدي! لا أود أن تبتل ثيابك اكثر مما ابتلت، ألا يكفي ما تحملت حتى الآن من اجلي؟
أردت أن أعود بها إلى الحديث عن حياتها فقلت لها.
- إذن لك والد فقط يا آنسة؟
- نعم يا سيدي. ثم قالت:
- أضننا قد بلغنا الجسر؟
وسكتت كأنها لا تريد أن تبحث عن شيء أبدا، ولكنها لم تتمكن من ذلك لأنها كانت في حاجة إلى أن تتكلم عن نفسها وان تحدثني عن حياتها، اجل! بحاجة شديدة إلى ذلك، فقالت:
- فقدت والدتي منذ سنتين، ومنذ ذلك الوقت اضطررت إلى العمل الكثير. كانت والدتي في حياتها هي التي تشتغل لنا، فلما ماتت ورثت تلك الوظيفة عنها وانتقلت إلى بمرارتها والمها.