للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هل لك والدة يا سيدي؟

فأشرت لها برأسي أن نعم، على أنها ما كانت تنتظر مني جواباً، لأن سؤالها هذاكان مقدمة لما تريد أن تحدثني به فقالت:

- إن اكبر تغيير يطرأ على حياة المرء يبتدي من تاريخ وفاة امه، لقد كنت حتى وفاتها اجهل الحياة وما فيها، كنت في مدرسة داخلية لا اعرف من الحياة إلا قدر ما يقع عليه نظري بين جدرانها السامقة، لا اعرف شيئا ولا اعرف أحدا ابدا، فلما توفيت والدتي واضطررت إلى ترك المدرسة والبقاء في البيت علمت أنني اجهل كل شي حتى أبى، أما الآن فقد عرفت الحياة جيدا، واختبرت أبناء آدم ظواهرهم وبواطنهم. لقد علمت كل ذلك، ولم يكد يمضي على دخولي في معترك الحياة اكثر من شهر. ولكن من المؤلم جدا أن يقف المرء على تلك الحقائق دفعة واحدة لان أعصابه تتزلزل بتلك الصدمة. لقد وصلنا إلى (الجسر) يا سيدي. أشكرك شكرا جزيلا، وهذه عربة هنا تقلني إلى البيت.

وهنا تهيأت لوداعي، ولكني رأيت أن المصادفات قد وقفتني على قصة حياة مؤلمة، فكنت أفكر في وسيلة أمد بها مرافقة تلك الفتاة حتى البيت، فقلت لها.

كلا أيتها الآنسة، إني سأرافقك حتى الجانب الآخر من (الجسر) لأني عدلت عن الرجوع إلى بيتي في مثل هذه الساعة وسأبيت بفندق هناك، فلم تعارضني بل اكتفت بتلك الإيضاحات وسرنا نقطع (الجسر) ونحن ساكتان.

كنا نمشي معا على أحد جانبي الطريق، وكنا نلاقي مشقة شديدة في إمساك مظلتينا بسبب ذلك الهواء الشديد البليل الذي كان يعصف من أحد جانبينا فيبلل ذلك الجانب. وفي تلك الأثناء أدارت نظرها فيما حولها وقالت:

- نعم إن بقاء الفتاة الشابة كل حياتها محرومة من عطف الوالدة وحنانها مصيبة ليست تضارعها مصيبة.

ثم استأنفت كلامها فقالت:

هل تدري يا سيدي ما الذي يقلق فكري اكثر من كل شي بعد هذا التأخر؟

كانت مضطربة تماما واضطرابها يزداد شيئا فشيئا، كانت تشعر أنها في حاجة إلى أن تقص على الرجل الذي لا تعرفه ولا يعرفها الناحية التي خفيت من نواحي حياتها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>