وللتمار الحق في ألا يصدق منامه مرة ثانية، فإنه مستعد للتحلم وتلفيق الرؤى في كل يوم ما دام يأخذ جلات التمر وقواصره، ومستعد للكذب أمام كل مخلوق ما دام ينتظر من ورائه منفعة، لأنه كان نفعياً بكل ما في الكلمة من معنى، ولم يكن يخجل من التماس المنفعة والعمد إليها حتى مع الذين لا ينتظرون أن يخدعهم ولو خدع الناس جميعاً.
دخل أبو دلامة على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضاً شديداً، ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفاً، وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوى بدنه، فقال أبو دلامة للطبيب: يا ابن الكافرة! أتصف الأدوية لرجل أضعفه المرض! ما أردت والله إلا قتله. ثم التفت إلى إسحاق فقال: أسمع أيها الأمير مني. قال: هات ما عندك يا أبا دلامة. فأنشأ يقول:
تنح عنك الطبيب وأسمع لعنتي ... إنني ناصح من النصاح
ذو تجاريب قد تقلبت في الصنعة دهراً وفي السقام المتاح
غاد هذا الكباب كل صباح ... من متون الفتية السحاح
فإذا ما عطشت فأشرب ثلاثاً ... من عتيق في الشم كالتفاح
ثم عند المساء فاعكف على ذا ... وعلى ذا بأعظم الأقداح
فتقوى ذا الضعف منك وتلغى ... عن ليال أصح هذي الصحاح
ونسكت عن الشطر الثاني من البيت الأخير لأن فيه ألفاظاً ينبو عنها الذوق، وننزه عنها القلم. لكنها - على كل حال - أضحكت إسحاق وعواده فأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم. وكان الطبيب نصرانياً فقال: أعوذ بالله من شرك ياركل (يريد يا رجل) ثم قال الطبيب لإسحاق: إقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شئ قدامه. فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي، فأنعت له الآن أنت ما أحببت.
فهل من النصيحة أن يدعو المريض إلى مجانبة الطبيب وأكل الكباب والعكوف على شرب الخمر وهو ما زال ضعيفاً يطلب أن يتقوى، أم رغبة أبي دلامة في إضحاك إسحاق وعواده هي التي حملته على هذا النعت العجيب، ليصل إلى شئ من النفع القريب؟