للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

احتراماً لخرائد المتنبي، وبعد أحد عشر قرناً ما يزال ابن المقفع والجاحظ أميري القلم وسيدي البيان وإمامي المنشئين.

والتجدد ليس علماً يلقن أو قواعد تدرس، إنما هو نزعة خلاقة في الفكر، وصبوة في النفس إلى الإبداع، وملكة في الطبع تأبى الانقياد. والمجددون هم صنف من العباقرة أوتوا موهبة الفتح والقدرة على الخلق، وليس في طاقة كل أحد أن يكون مجدداً، وإنما في طاقته ألا يكون مقلداً.

وسألني بعضهم هل لأدب العصبة الأندلسية اتجاه خاص أو طابع معروف به، فكنت أجيب: لا أعرف للأدب اتجاهاً واحداً ولا طابعاً خاصاً، وإنما أعرف أن الأدب فن كسائر الفنون الجميلة يمكنك من التعبير عن مشاعرك وتصوير ما يرتسم بأفكارك وتدوين ما يجري في أيامك وتعريف ما يقع تحت نظرك من المشاهد وغير ذلك من الأغراض. وأعرف أيضاً أن لكل أديب اتجاهاً وطابعاً لميوله وثقافته وبيئته. أما هذه الأنماط التي يعرفونها تارة بالمدرسية وطوراً بالوجدانية ومرة بالرمزية فهي أشبه شيء بالأزياء التي يستحدثها هواة الطرافة يقبل عليها الناس زمناً ثم يهملونها. قالوا إن هوجو وجماعته ابتدعوا المذهب الرومانطيقي الذي يعتمد المشاعر والخيالات والصور الطبيعية، والواقع أن هذا المذهب قديم جداً تلقاه في التوراة وفي أدب الهند والأندلس وغيرها، فهو لا يخرج عن زي قديم؛ كما أن الرمزية التي يريد دعاتها اليوم أن يرفعوا علمها على أنقاض الرومانطيقية ليست سوى الصوفية يعينها.

أنا لا أستنكر المذاهب الكتابية مهما كان شأنها لأنها تحمل روح الابتكار ودلائل الحياة؛ فالركود آخرته العفن والجمود معناه الموت، لكني لا أعتبرها من الأدب أسسه وأركانه، فالمذاهب تتغير أما الأدب فباق. لقد كانت الموحشات في عصرها بدعة استهوت الألباب، ثم خمل شأنها مع الزمن حتى كادت تهمل في أيامنا على انتشار الغناء وهي في أصلها ابتدعت للغناء والطرب. أما أدب امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعه والمتنبي وابن المقفع والجاحظ وابن خلدون وإضرابهم فراسخ كالطود مهما تنوعت المذاهب وتجددت طرق التعبير.

وهذه بعض قطع لشعرائنا لم أخترها وإنما وقعت على أكثرها هنا في بضعة أجزاء من

<<  <  ج:
ص:  >  >>