للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إنما هي اتجاه فكري، إحساس بمشكلة تعترض الذهن وتأملها تأملاً حراً بغية الاهتداء إلى سرها عن طريق العقل والمنطق. وإذا فهمت الفلسفة على هذا النحو قرَّ في نفوسنا أن الواجب يقضي علينا أن نتعمق حياة العامة ونغوص على حكمهم السائرة، ونجيل البصر في كتب الشعراء والأدباء، لتبرز بدايات التفكير الفلسفي. ويقضي علينا أيضاً أن نكشف عن بساطة المذاهب الفلسفية وكيف أنها تنبغ على نحو طبيعي من نفس المنابع التي تنبع منها الحكم الشعبية مع فرق في درجة الإتقان والتوفيق. حينئذ يتحقق الوئام بين الحكمة الشعبية والفلسفة المذهبية برفعنا من مقام الأولى وردنا الحياة إلى الثانية، وتندمج عقول العامة وعقول العباقرة في وحدة فكرية نبيلة لا تنفصم عراها.

تلك رسالتي أدعو إليها بكل ما أوتيت من قوة، وأجهد في سبيلها حتى تتلاشى الحواجز الصناعية التي يقيمها نفر من المثقفين. وأؤكد لهؤلاء أن أعقد المذاهب الفلسفية لا يفهم بفهم الألفاظ التي تنقله إلينا، ولكن تفهم المذهب عندما تلمس المشكلة التي اعترضت ذهن صاحبه وتتمثل الكفاح الفكري الذي قام به حتى توصَّل إلى حل المشكلة وتفسيرها بمذهبه، أي عندما تعيش اللحظات الفكرية التي عاشها حينئذ تكتشف أن المشكلة ذاتها قد تعترض أي ذهن، حتى ليمكننا في أحوال كثيرة أن نوفق في رد بعض المذاهب الكبرى إلى أصول في الحكمة الشعبية. إن الفلسفة حركة فكرية طبيعية قبل أن تكون معرضاً لفظياً لمصطلحات مبتسرة، وهي بهذا المعنى بسيطة كما رآها ديكارت وغير واحد من فلاسفة الفرنسيين.

وفيما أنا مشغول بالتفكير في هذه المحاولة، أقرأ رسالة صغيرة أهداها إلينا أستاذنا الدكتور عثمان أمين يحلل فيها خصائص العقلية الفرنسية، إذا بي أجد ما يؤيد محاولتي. وكم كان سروري عظيماً عندما بلغت قوله: (ليست عبقرية الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين إلا كمال ذلك المعنى الذي نجده متحلياً عند فلاحي فرنسا ملموساً في أعمالهم اليومية.) وعندما ردد مع (برجسون) (ليس هنالك فكرة فلسفية مهما يكن حظها من العمق والدقة إلا ويستطاع - بل يحسن - التعبير عنها بلغة الناس المتداولة البسيطة.) ومع (بوالو):

(إن ما أجد تصوره استطعنا أن نعبر عنه تعبيراً واضحاً، وجاءتنا الألفاظ عنه طائعة مختارة.) وعندما علق على قولي برجسون وبوالو بعبارة ساخرة تحفزني إلى المضي في

<<  <  ج:
ص:  >  >>