أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كل عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان، واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره (التشاؤم) في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!. . . من الخطأ في رأيي أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل، كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!. . . أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأي واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كل يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات؛ وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي: القلق!
ولقد فسرت هذا القلق على ضوء علم النفس الأدبي تفسيراً جديداً، حيث قلت بعد كلام طويل في هذا المجال: (الفراغ في حياة أبي العلاء، ولا شيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصلية لتلك الذبذبة النفسية ممثلة في هذه الذبذبة الفكرية ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟ إنها ثلاثة ألوان: فراغ الشمس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردهما جميعاً إلى الحرمان، فنفس أبي العلاء كانت تشكو الحرمان من العطف، وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة. . . وقفْ طويلاً عند هذا الحرمان الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيرة بين ألف رأي وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر، حيث يتجلى التناقض والتضارب والاختلاف! هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأيي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في