ووحدته، وكأنما يقول له الفَرْش والنَّجْدُ والطراز:(بعني يا رجل وردَّني إلى السوق؛ فأني هنالك أطمع أن يكون مصيري إلى أب وأم وأولاد، أجدُ بهم فرحةَ وجودي، وأصيب من معاشرتهم بعض ثوابي، وأبلى تحت أيديهم وأرجلهم فأكون قد عملت عملاً إنسانياً. أما عندك فأنت خشبة مع الخشب، وأنتِ خِرقة بين الخِرق. واسمع الكرسّي إنه يقول: أفّ. وأصغِ إلى فراشك انه يقول: تفّ. . .)
شهد العزبُ وربِّ الكعبة على نفسه أنه مُبْتَلىً بالعافية، مستعبدٌ بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة. وشهدتْ الحياة عليه ورب البيت أنه في الرجولة قاطع طريق يقطع تاريخها ولا يؤِّمنُه، ويسرق لذاتها، ولا يكسبها، ويخرج على شَرْعِها ولا يدخل فيه، ويعصي واجباتها ولا ينقاد لها. وشهد الوطن - والله - عليه أنه مخلوق فارغ كالواغل على الدنيا؛ إن كان نعمةً بصلاحه، انتهتْ النعمةُ في نفسها لا تمتد؛ وأن كان بفساده مصيبةً امتدتْ في غيرها لا تنقطع. وأنه شحّاذ الحياة أحسن به الأجداد نسلاً باقياً، ولا يُحْسن هو بنسل يبقى، وأنه في بلاده كالأجنبي، مهبطة على منفعةٍ وعيشٍ لا غيرِهما، ثم يموت وجوُد الأجنبي بالنَّقْلةِ إلى وطنه، ويموت وجودُ العزب بالانتقال إلى ربه، فيستويان جميعاً في انقطاع الأثر الوطنيّ، ويتفقان جميعاً في انتهاب الحياة الوطنية، وأن كليهما خرج من الوطن أبْتر لا عَقِب له، ويذهبان معاً في لحج النسيان: أحدهما على باخرة، والآخر على النعش!
جاءني بالأمس (أرملة حكومة) وهو مهندس موظف. ومعنى الهندسة الدقة البالغة في الرقْم والخط والنقطة وما احتمل التدقيق؛ ثم الحذُر البالغ أن يختلّ شيء أو ينحرف، أو يتقاصر أو يطول، أو يزيد أو ينقص، أو يدخله السهو، أو يقع فيه الخطأ؛ إذ كان الحاضر في العمل الهندسيّ وإنما هو للعاقبة، وكان الخيال للحقيقة؛ وكان اُلخرْق هنا لا يقبل الرُّقعة. ومتى فَصلت الأرقام الهندسية من الورق إلى البناء مات الجمع والطرق والضرب والقسمة، ورجع الحساب حينئذ وهو حساب عقل المهندس؛ فأما عقل دقيق منتظم، أو عقل مأفون مختلّ.
بَيّد أن المهندس - على ما ظهر لي - قد خَلَتْ حياته من الهندسة. . . وانتهى فيها من التحريف المضحك - حتى فيما لا يخطئ الصغار فيه - إلى مثل التحريف الذي قالوا إنه