الدخول على السلطان وهو محني الرأس ومطرقاً إجلالاً وإكباراً مقبلاً الأعتاب بين يديه، وهي مراسيم كانت تطبق على كل من يريد المثول أمام هذا الطاغية الجبار، ومن يخالفها لا يكتب له الحظوة بهذه المقابلة. وعندما عرضت على صاحبنا القباني رفضها بشمم وإباء قائلاً: أنا رجل نسيج وحدي لا أحني رأسي لغير خالقي الذي يميتني ويحييني ويطعمني ويسقسني وبيده ضري ونفعي؛ فإن شئت يا سيدي الباشا أن تكون مقابلتي لمولاي المعظم كمقابلتي لكل إنسان آخر من الناس فعلت، وإن أبيت إلا هذه الشروط فاعفني من هذه الزيارة التي فيها المذلة والمهانة).
فلم يكد الباشا يسمع من صاحبه هذه العبارات حتى كاد يجن لشدة ما عراه من الغضب والحنق، فغض الطرف عن هذه الزيارة ثم صدف القباني عنه قائلاً أرجوك رجاءً حاراً ألا تذكر ما دار بيني وبينك من حوار إلى أي مخلوق لئلا يصل ذلك إلى مسامع السلطان فتكون الطامة الكبرى علينا نحن الأثنين، كما أني آمرك أن ترحل من هذه الديار على الفور دون أن يشعر بك إنسان، وقد خصص له بعد سفره معاشاً من خزينة الدولة يكفيه هو وأفراد أسرته.
بقى القباني يتقاضى في دمشق هذا الراتب منحة من الوزير المشجع لكل موهبة حقبة من الزمن كان فيها معتزلاً الناس إلى أن اختاره ربه إلى جواره، فانطفأت بانقضائه تلك الشعلة الفنية التي أضاءت النور للشرق عامة ونفذ إشعاعها إلى ديار الغرب، وكانت السبب في انبعاث هذه النهضة الفنية التي قامت في ربوع الشام والنيل والتي لا يزال أثرها ماثلاً للعيان يذكرها أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة كابراً عن كابر). . .
وكانت وفاته في دمشق سنة ١٣٢٠ هجرية ودفن في مقبرة الباب الصغير. قضى كما يقضى عظماء الرجال دون أن يترك لأسرته من بعده سبداً ولا لبداً ولم يبق لأسرته سوى بيت للسكن تقطنه الآن ابنتاه الكهلتان. ومما يجدر ذكره هنا في هذه الترجمة إقراراً بالجميل أن معاشه ظلت ابنتاه تتقاضيانه حتى موت الوزير العابد ولم ينقطع عنهما إلا في عهد زوال الدولة العثمانية وظهور الدولة الكمالية.
هذا ما بدا لي أن أكتبه خدمة للتاريخ والحقيقة عن القباني الممثل راجياً أن تتاح لي فرصة أخرى وأكتب نبذة عن القباني الموسيقي الملحن الذي أضاف إلى رقصة السماح نوعاً آخر