الآفاق طلب للذهاب إلى معرض (واشنطون) ليعرض بعض رواياته، وقطعاته الفنية فيه، فأبحر مع أفراد فرقته إلى الدنيا الجديدة وكلهم أمل وغبطة لإطلاع زوار المعرض على الذكاء العربي ومقدار ما وصل إليه فنه - بيد أن الدّوارّ الذي اعتراه في طريقه جعله يعدل عن السفر فعاد أدراجه من إيطاليا إلى القاهرة وسافر أفراد فرقته وحدهم إلى (واشنطون) وعرضوا على زواره بعض فصول من قطعاته الموسيقية وبعض رواياته كانت موضع تقدير القوم وإعجابهم هناك.) رأى نابغتنا بعد عودته من إيطاليا أن ينقل مسرحه من الأزبكية إلى قرب دار (الأبرا) الملكية ففعل. وبعد مدة من الزمن احترق مسرحه وعاد الشؤم والنحس بصحبانه من جديد، وكان قد انتشر هذا الفن في ربوع النيل وكشفت غوامضه مما أهاب بصاحبنا أن يهجر القاهرة لتفرق أفراد جوقته وقلة ذات يده ويؤم الأرياف متكسباً مع بعض أفراد جوقته المتخلفين عن السفر إلى (واشنطن) فزاول العمل مدة في الأرياف ثم قل العمل وتاقت نفسه للعودة إلى بلاده التي دفن فيها أحلامه.)
وحببّ أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا
وفي نزوة من نزوات النفس الأمّارة وموجبةٍ من موجبات الشوق المبرح المضني عاد القباني إلى دمشق بعد أن نشر رسالة الفن في القطر الشقيق، وكانت الحال قد تبدلت في وطنه ومات من مات من عشاق فنه ورواد مجالسه، وهلك من هلك من حساده ومناوئيه. وكان المشيب يومئذ قد أشعل رأسه وكلل جبينه بهالة بيضاء من نور الشيخوخة والوقار فلم يجد في نفسه الهمة الفتيّة والكفاءة للقيام بأي عمل فني فأقام في دمشق مدة كان معتزلاً العمل خلالها زاهداً في بيته منقطعاً إلى صلاته ونسكه حتى أتاه رسول أحمد عزة باشا العابد) يدعوه باسمه للشخوص إلى الآستانة ليمهد له سبل المثول بين يدي الذات الشاهانية، فتجددت عزائمه بهذا الطلب وعاد الأمل يداعبه من جديد وقد نسي أن لكل زمان دولة ورجالاً، وقد هتف به هاتف من نفسه أن يعتذر عن هذه السفرة؛ بيد أن شبح (البروفسور) وآفاته التي تبتلع أشلاء الضحايا مثل أمامه ودفعه إلى إجابة الباشا إلى طلبه، وفور وصوله الآستانة استقبل من قبل الحاشية استقبالاً فخماً وحل ضيفاً على الوزير الغابه صاحب الدعوة، وكان يتقن اللغتين التركية والفارسية فبقى هناك ضيفاً يتمتع بعطف مضيفه مدة من الزمن حتى احتال الوزير الداهية على المماليك بوعد لمقابلة القباني، وكان من شروطها