هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الجائشة في ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير؛ التعبير عن واقع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء!
هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن، لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأداء النفسي في الشعر، وهو الأداء الذي يعتمد على اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ ذو الدلالة النفسية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!
هذا هو مكان اللفظ من الأداء، أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي ينقلك بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الوجدانية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي).
ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء، وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملا بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلا في عنصري الألفاظ والأجواء لا غنى له بحال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من نقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!
ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . إن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو الموسيقي؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن تتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ، والموسيقى الحالمة مثلا في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فتتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة