نترك هذا التحديد لكل تلك القضايا الفنية لنقول إن أصحاب الشعر العربي القديم لم يفطنوا إلى قيم الأداء النفسي في الشعر إلا في القليل النادر الذي لا يحسب له حساب. . . وإذا كانت هناك ومضات من هذا الأداء تطالعك في هذا الشعر، فهي ومضات متفرقة يصعب أن تجمع بينها لتخرج من هذا الجمع برصيد يمكن أن ينسب إلى شاعر واحد، لتخلق من شخصيته الشعرية قمة من قمم الأداء النفسي! مصدر الداء أنهم نظروا إلى مظهر اللفظ أكثر مما نظروا إلى مخبره، وأنهم شغلوا عن (الذاتية النفسية) بتلك (الذاتية البيانية)، وأنهم عبروا عن الشعور المصنوع أكثر مما عبروا عن الشعور المطبوع!
على هذا الأساس سار الشعر القديم يبارك خطواته النقد القديم؛ ذلك لأن الأجيال قد دأبت على أن تخلق أبناءها في ميدان الفن من طينة واحدة، وأن تصوغ ملكاتهم من معدن واحد: يقف الشاعر عند (الهياكل العظمية) للألفاظ ويقف معه الناقد، وغاية الفن عند هذا وذاك أن يطلب الأول إلى صاحبيه أن يقفا لحظات ليبكيا معه، وأن يشير الثاني إلى أنه بلغ القمة لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى، أو لأنه مثلا قد وقف إلى تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد!
لا أريد أن أذهب في القول إلى أكثر مما ذهبت في هذا المجال، لأن مشكلة الأداء اللفظي لا تحتاج إلى أن نستخلص لها الشواهد من الشعر العربي القديم، ولأن تلك الشواهد قد مر بها القراء والأدباء في مطالعتهم لذلك الشعر، وهي بعد ذلك أوضح في حساب الكثرة من أن يشار إليها أو تجمع في حساب التسجيل والإحصاء!
حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم لأصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان ويستطيع النقد الحديث أن يقول إنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم (شوقي)، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم (إليا أبو ماضي)، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات