للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذه الكتب فإذا هي متفرقة متمزقة كأنها الأشلاء المبعثرة بأطراف الصحراء!

وأني لواثق أنه ما كان لقصة ابن المعتز أن تستحكم حلقاتها لولا أن الأستاذ قد غامر فتنقل فعلاً (بين طوائف شتى من كتب التاريخ والطبقات والأدب والفقه والمُلَح والدواوين) فاستطاع بهذا التنقل الفكري المرهق أن يريح قارئ قصته، إذ أوضح له خفيات الأمور، وتطوع بنفض الغبار عن كثير من الحقائق، حتى ليظن أولئك الذين تعودوا أن يقرءوا غير محتكمين إلى العقل والمنطق أن ليس في الكتاب عناء البحث ولا وعورة المسلك، لاتخاذ الكاتب طريق القصص الذي يبدو سهلاً لمن يراه، ولا يعرف صعوبته إلا من عاناه.

ومن المعروف لدى المشتغلين بأدب القصة ونقدها أن الأسلوب القصصي حين يعتمد على الخيال الخالق وحده في تأليف الحوادث وربطها، أو حين يعتمد على التاريخ الصادق وحده في رواية الأخبار وجمعها، لا يعترضه من العقبات ما يعترض القصاصي الذي لا غنى له عن الجميع في آن واحد بين ما ارتضاه من خيال وما صدقه من تاريخ. وأكثر ما يكون ذلك في القصص التاريخية التي تدور حول فتنة حمراء لعب المؤرخين فيها دور الجبناء، خوفاً من سطوة القادر ونفوذ الحاكم وعنت الجبار.

وخلافة ابن المعتز التي تقرأ وصفها في كتاب (يوم وليلة) كانت فتنة اندلعت ألسنتها بسرعة وسكت غضبها بسرعة، لكنها - رغم استحالة جمرها إلى رماد - أخافت كثيرين من التصدي لأخطارها لئلا يحترقوا بنارها، ولتجدن أكثر الذين عاشوا في هذه الفتنة وبلوا أخبارها قد أفضوا بذات أنفسهم إلى معاصريهم لكنهم أبوا أن بدونهم لمن بعدهم شيئاً مذكوراً يكشفون به مسدل الأستار، ويذيعون به خفي الأسرار؛ ولولا كلمات مبثوثة هما وهماك على ألسنة الوزراء والندماء والقواد والقضاة والتجار والسوقة لاندثرت معالم هذه القصة ولما استطاع الخيال أن يرتكز في وصف حوادثها إلا على أسطر قليلة لا تغني من الحق شيئاً.

وهنا تظهر مقدرة الكاتب بوضوح، فلقد عرض القصة عرضاً فنياً، وسبح في جوها سبحاً طويلاً. وقد خاف أن يأخذ عليه النقاد ابتعاده بالقصة عن وجهها الحقيقي فقيد نفسه بقيود كثيرة، وألزم قلمه ألا بنطق إلا فيما تدعو إليه حلقات القصة لتكون قوية التماسك وثيقة الإحكام. . . وأشهد أن الأستاذ كان موفقاً في ما حبس به نفسه وفي ما أطلقها فيه؛ بل إن

<<  <  ج:
ص:  >  >>