للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في ما زاده من حوار بين الأشخاص أو تمهيدات بين يدي الأحداث لبراعةً نادرة تجعل القارئ يظن نفسه أمام قصة محبوكة الأطراف قد وثَّق الزمن ذاته عراها ولم يترك للخيال في نسجها يداً.

وإن كاتباً هذه مقدرته في خلق الحوادث خلقاً يوشك أن يكون طبيعياً حرى أن يخرج لنا كتباً كثيرة عن بعض أدبائنا الأقدمين وعلمائنا السالفين الذين لم يسعدنا طول البحث بالتعرف إلى آرائهم وتحليل نفسياتهم. وإن هذه لخدمة جلى يستطيع الكاتب وأمثاله ممن أوتوا موهبته أن يسدوها إلى عشاق العربية من أبناء هذا الجيل.

وما برحت موقناً بأن جمال العرض وقوة الأسلوب هما عامتا العمل الغني في حياتنا الأدبية؛ فبمقدار ما نُعنَى بهما تعلو قيمة إبحاثنا، وتستحق من الخلود.

وحين أذكر قوة الأسلوب ههنا لا يسعني إلى أن أهنئ الكاتب من صميم قلبي على تعبيره الرصين، وألفاظه الجزلة، وجمله المحكمة، وطول نفسه للاحتفاظ بوحدة الفكر. وتلك مزايا أدبية لا نكاد نجدها مجتمعة حتى في أساليب بعض المشهورين من كتابنا في مصر والشرق العربي؛ ومن خيل إليه أن في حكمي هذا شيئاً من المبالغة فليقرأ الكتاب بنفسه وليطالعني برأيه.

ولقد تأخذ على المؤلف بعض مآخذ فنية، فترى أنه أطال حواراً كان في مكنته اختصاره، أو أنه أوجز في فصل كان يستحسن فيه الأطناب، أو أنه أهتم بعض الشيء بأشخاص ليسوا من أملاذ الفتنة، أو بأحداث ليست في صميم القصة؛ لكن هذه المآخذ - لفتها وضآلتها - لا تغض من قيمة هذا الأثر الفني الرائع الذي ما أشك في أن صاحبه انفق عليه من الليالي الساهرة مثلماً كان ينفق الرسام الذي يبغي الخلود، أمام لوحة يريد أن يبهر بها الوجود.

وأنك لتستطيع أن تقرأ نظرة الكاتب إلى الحياة من خلال الأحاديث التي أنطلق بها أشخاص قصته، فلقد أشفق على أبن المعتز في ضعفه، ولقد شمت به في غروره، ثم عاد يترجم عليه بعد مماته. وحِكَم الكاتب التي زين بها كتابه بدت طبيعة في أحاديث الأشخاص إلا في مواضع قليلة ظهرت فيها مقمحة كأن صاحبها يتكلف الموعظة، ويصطنع أداء الحكمة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>