رغم ما كانت تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما أرتاه زملاؤه وما ارتأيته أنا وكررته عشر مرات تارة بالقول القارس وطوراً بالكتابة في وجوب سد القناة؛ رغم كل ذلك أصرَّ عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلى نصراً من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك. ويحذره جون نينيه قائلا:(إن قناة السويس هي خط الدفاع الوحيد الذي لكم في هذه الناحية، وإذا لم تحتلوه فسيحتله العدو غداً ولن يجد صعوبة في احتلاله) ومع ذلك كله يأبى عرابي إلا أن يصمَّ أذنيه ويقف مكتوف اليدين حتى تساءل كاتب تاريخ الحركة القومية بقوله: (فليت شعري ما الذي جعله يعدل عن هذا الرأي الصواب ويمتنع عن سدَّها حتى احتلها الإنجليز؟) وموقعة التل الكبير!! كيف يخوض تلك الموقعة الفاصلة وهو بعد لم يستكمل وسائل الدفاع؟ لقد أقيمت خطوط الدفاع على عَجل، ولم تكن هيفي ذاتها محكمة الوضع. يقول المستر بلنت في التاريخ السري للاحتلال: إن جيش عرابي بالتل الكبير لم يزيد على عشرة آلاف أو اثني عشر ألف جندي، والباقون كانوا من المجندين الأحداث الذين لم يسبق لهم إطلاق بندقية واحدة. أضف إلى ذلك أن خيرة الجنود لم يكونوا بلتل الكبير بل كانوا في كفر الدوار أو في دمياط، وهؤلاء لم يشتركوا قط في المعركة، وكان من حسن التدبير أن يستدعى عرابي على الأقل الألاي المرابط في دمياط لأنه كان يحتوى على خيرة الجند المدربين، ولكنه لم يفعل. بل لقد عهد عرابي بالقيادة إلى علي باشا الروبي فحضر قبل الواقعة بيوم واحد وهو وقت لا يكفي لتعرف مواقع القتال ووضع الخطط الصالحة.
وكيف لا يشتم رائحة الخيانة في صفوف أعوانه؟! أترسم خطة الموقعة ليلا فلا تستقر في نفس الليلة إلا عند الأعداء؟! ويتحرك الجيش الإنجليزي إلى أن يصل إلى ميدان الموقعة مسافة تبلغ نحو خمسة عشر كيلو متراً دون أن تصادفه طلائع المصريين؟ أيوقع الإنجليز بالجند (على حين كان راقداً فدهشت العساكر وتولاها الانذهال حيث رأوا ضرب النار من خلفهم وأمامهم، فألقوا أسلحتهم وفروا طالبين النجاة) على حد عرابي نفسه في روايته عن تلك المعركة.
وأخيراً كيف يرتضى عرابي لنفسه أن يرخى لفرسه العنان ثم يستسلم بعد فراره هذا الاستسلام الذليل؟ لقد قال الرافعي بك في هذا الموقف الذي ختم به عرابي فصول الثورة: (ولكن عرابي آثر الحياة على الواجب المقدس ففقد روح البطولة والتضحية، ولم يكن هذا