يبدوا هذا الاعتراض وجيهاً في أول وهله. ولكن المعتزلة وجدت فيه نقصاً وضعفاً كبيرين - يوجد أولا نقص منطقي في الاعتراض نفسه لأنالله في مذهب هشام بن الحكم جاهل بالأمور غير عالم بها وهو يعلمها عند وقوعها. وهذا تشبيه شنيع لله بخلقه يناقض كماله تعالى.
ثم هناك ضعف آخر في الاعتراض وهو إن كان الله لم يزل عالماً بالأشياء قادراً عليها فهذا لا يعني أن الأشياء المعلومة والمقدور عليها موجودة منذ القدم - لأن الفاعل لابد من أن يكون قبل عالماً يكيف يفعله وإلا لم يجز وقوع الفعل منه، كما أنه إذا لم يكن قادراً على فعله قبل أن يفعله لم يجز وقوع الفعل منه أبداً. ألا ترى أن من لم يحسن السباحة أو الكتابة لم يجز منه وقوعهما؛ فإذا تعلمهما وعلم كيف يكتب أو يسبح جاز وقوعّ الكتابة أو السباحة منه. وهذا حكم كل فاعل: لابد من أن يكون قبل فعله عالماً به وإلا لم يجز وقوعه منه - وبناءً على ذلك تقول المعتزلة إن الله كان ولا شئ معه، وأنه لم يزل بعلم أنه سيخلق الأجسام وأنها ستتحرك بعد خلقه أياما وتكن. وإنه لم يزل يعلم أنها متحركة إذا حلتها الحركة وأنها ساكنة إذا حلها السكون؛ وهو لنفسه لم يزل يعلم أن الجسم قبل حلول الحركة فيه يتحرك، وأنه في حال حلول الحركة فيه متحرك - فلا ماض ولا مستقبل في علمه تعالى لأن علمه هو ذاته وعلمه سابق للمعلومات. فتكون هكذا الأشياء أزلية في علم الله، محدثه في الزمان المعين والمحدد لها من الله. وحدوثها في الزمان لا يضيف ولا يبدل شيئاً في علم الله لأن هذا العلم سابق لها.
تبقى مسألة جواز وجود ما يعلمه الله أنه لم يوجد، ومسألة حرية الإنسان في فعل المعاصي مع معرفة الله الأزلية لما يفعله الإنسان، وهذه المسألة الأخيرة في غاية الدقة لأن المعتزلة تفخر بأنها ليست (أهل توحيد) فحسب بل أيضاً (أهل عدل) - وسنبحث إن شاء الله في مقالنا القادم هذه المسألة الخطيرة.