للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللذيذ الذي يغدقه تأمل البحر. ألا تعرف هذه النشوة العذبة التي تغمر النفس؟ هناك لا يفكر المرء، ولا يحلم، وإنما يشرد كل كيانه، ويطير، ويتشتت. فإذا، أنت هذا الطائر الذي يغطس في الماء، وإذا أنت رذاذ هذا الزبد الذي يطفو في نور الشمس بين موجتين، وإذا أنت ذلك الدخان الأبيض الذي يتصاعد من تلك السفينة التي تبتعد، وإذا أنت هذا الزورق الصغير الأحمر الشراع، وأنت هذه اللؤلؤة من الماء، وهذا الغشاء من الضباب، أنت كل شىء ما عدا نفسك. . .)

وقد يكون من العبث الطريف أن تحاول إحصاء كلمة (الصغير) في كتاب من كتب دوديه. إنها تتردد مراراً في الصفحة الواحدة، بل في الفترة الواحدة. . . ولكن الحياة المادية الحديثة التي أصبح المرء لا يبحث فيها إلا عن الكسب، والمتعة القريبة المباشرة، وقد أنهت بالحس الإنساني إلى التبلد والمجون، وصرفت النفوس عن الأشياء البعيدة والأشياء الصغيرة صرفاً يكاد يصل إلى إنكار وجود هذه الأشياء. . . على أننا نستطيع أن نستعير من منطلق المادية الغليظة دفاعا عن الشيء الصغير: فتلك البذرة الضئيلة التي لم تستوقف عينك لحظة هي التي أنبتت هذه الدوحة العظيمة التي تروعك بجذعها الضخم وأغصانها الملتفة، وزهرها الوضاح وثمرها الغزير؛ وبعض الغدد الصغيرة التي كان يجهل الطب القديم مكانها من جسم الإنسان أضحت اليوم في ضوء الطب الحديث أهم وظيفة وأخطر شأنا من الأعضاء الكبيرة الشهيرة؛ بل حسبنا أن نذكر أن عصرنا هو عصر (الذرة). . .

يرحم الله جوته فقد قال عن الشاعر إنه (من يستخلص المعنى الرفيع من الشىء الوضيع)؛ ويرحم الله ألفونس دوديه، فقد كان يقول لابنه ليون: (إن للاشياء معنى، مكانا نستطيع أن نمسكها منه).

أنور لوقا

مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

<<  <  ج:
ص:  >  >>